معجزة تعلم اللغة العربية – والرد على تهمة السرقة من مقامات الحريري والهمذاني
صفحة 1 من اصل 1
معجزة تعلم اللغة العربية – والرد على تهمة السرقة من مقامات الحريري والهمذاني
ملخص المعجزة أن الله تعالى قد علّم المسيح الموعود عليه السلام أربعين ألف جذر من اللغة العربية في ليلة واحدة، فطفق حضرته يكتب الكتب والأشعار البليغة والمليئة بالمعاني والمعارف والحكم.
وقد كتب حضرته أول كتاب بالعربية في عام 1893، واسمه التبليغ، وكتب آخر كتاب بالعربية عام 1907، واسمه الاستفتاء… وخلال هذه الأعوام الأربعة عشر كتب حضرته 22 كتابا بالعربية، وضمّنها آلاف الأبيات الشعرية.
المستوى اللغوي للمسيح الموعود قبل هذه المعجزة:
لم يكن المسيح الموعود عليه السلام يعرف من العربية إلا ما يتعلمه أي مسلم عادي؛ من قراءة القرآن ومن قراءة عادية لا تُنتج كاتبا. لقد كان حضرته من قرية نائية، ولم يكن قريبا من المدن الكبيرة ذات المعاهد والمدارس الدينية.
بداية هذه المعجزة:
بدأ المسيح الموعود عليه السلام يكتب المقالات وينشرها في الصحف منذ عام 1872. ثم بدأ يكتب الكتب منذ عام 1880. ولكنها جميعها كانت بالأردو. ولم يكن هذا محلّ اعتراض، فمن الطبيعي أن يكتب أي إنسان بلغته الأم.
ولكن لما أعلن حضرته أن الله قد اصطفاه مهديا ومسيحا، أخذ المشايخ يُعيّرونه بعدم إلمامه بالعربية لغة القرآن الكريم، فلم يكن أمامه إلا أن يدعو الله تعالى ليصلح حاله هذا. فاستجاب الله أدعيته وعلمه هذه اللغة العظيمة، فطفق يكتب بكل سرعة وسهولة.
يقول حضرته: “وإن كمالي في اللسان العربي، مع قلة جهدي وقصور طلبي، آية واضحة من ربي، ليُظهر على الناس علمي وأدبي. فهل من معارض في جموع المخالفين؟ وإني مع ذلك عُلّمت أربعين ألفا من اللغات العربية، وأُعطيتُ بسطة كاملة في العلوم الأدبية، مع اعتلالي في أكثر الأوقات، وقلّة الفترات، وهذا فضل ربّي أنه جعلني أبرع من بني الفُرات، وجعلني أعذب بيانا من الماء الفرات. وكما جعلني من الهادين المهديين، جعلني أفصح المتكلمين. فكم من مُلَحٍ أُعطِيتُها، وكم من عذراء عُلّمتُها، فمن كان من لسن العلماء، وحوى حسن البيان كالأدباء، فإني أستعرضه لو كان من المعارضين المنكرين.
وقد فُقت في النظم والنثر، وأُعطيت فيها نورًا كضوء الفجر، وما هذا فعل العبد، إنْ هذا إلاّ آية رب العالمين. فمن أبى بعد ذلك وانزوى، وما بارزني وما انبرى، فقد شهد على صدقي ولو كتم الشهادة وأخفى.” (مكتوب أحمد)
موقف المعارضين من هذه المعجزة:
لقد قال بعضهم إن هناك عربيا يعلِّم حضرته، وقال آخرون إن لغته عليه السلام ضعيفة. وقد تحدث حضرته عن هذه الاتهامات فقال: “…. ثم من اعتراضات العلماء وشبهاتهم التي أشاعوها في الجهلاء، أنهم قالوا إن هذا الرجل لا يعلم شيئا من العربية، بل لا حظّ له من الفارسية، فضلا من دخله في أساليب هذه اللهجة، ومع ذلك مدحوا أنفسهم وقالوا إنّا نحن من العلماء المتبحّرين. وقالوا إنه كل ما كتب في اللسان العربية من العبارات المحبّرة، والقصائد المبتكرة، فليس خاطره أبا عذرها، ولا قريحته صدف لآليها ودُررها، بل ألّفها رجل من الشاميين، وأخذ عليه كثيرًا من المال كالمستأجرين، فليكتب الآن بعد ذهابه إن كان من الصادقين.
فيا حسرة عليهم! إنهم لا يستيقظون من نُعاس الارتياب، ولا يُسرحون النواظر في نواضر الصدق والصواب، ولا ينتهجون مهجة المنصفين. وتركوا الله لأشاوي حقيرة، وأهواء صغيرة، فإلامَ يعيشون كالمتنعّمين؟ يُصأصئون كما يُصأصئُ الجرو ولا يستبصرون، ويُضاهي بعضهم بعضا في الجهل فهم متشابهون. وإذا قيل لهم تعالوا إلى حقٍ ظهر، وقمرٍ بهر، فتشمئز قلوبهم ويهربون مستنفرين. أولئك الذين هتك الله أسرارهم، وكدّر أنظارهم، فتراهم كالعمين. يريدون أن يُفسدوا في الأرض عند إصلاحها وجزّءوا الأمانة والدين. (مكتوب أحمد).
رد المسيح الموعود عليه السلام على اعتراضاتهم:
لقد تحداهم حضرته أن يبارزوه في هذا المضمار، ولكن أحدا لم يتقدّم للمواجهة.
يقول عليه السلام عنهم: “صمتوا كرجل ألثغ، وسكتوا كالذي على تُرب الهوان مرّغ، فانقلبنا عنهم كالمنصورين”
ويخاطب أحد المعارضين بقوله: “وإني أُيّدتُ من الله القدير، وأُعطيتُ عجائب من فضله الكثير. ومن آياته أنه عَلّمني لسانًا عربية، وأعطاني نِكاتًا أدبية، وفضلني على العالمين المعاصرين. فإن كنتَ في شك من آيتي، وتحسب نفسك حُدَيّ بلاغتي، فتحام القال والقيل، واكتب بحذائي الكثير أو القليل. وجدّد التحقيق ودع ما فات، وبارز في موطن وعيّن له الميقات، وعليَّ وعليك أن نحضر يوم الميقات بالرأس والعَين، ونناضل في الإملاء كالخصمَين. فإن زدتَ في البلاغة وحسن الأداء، وجئتَ بكلام يسر قلوب الأدباء، فأتوب على يدك من كل ما ادّعيتُ، وأحرق كل كتاب أشعتُه أو أخضيتُ، ووالله إني أفعل كذلك فانظر إني أقسمتُ وآليتُ. فارحم الأمة المرحومة، وعالج الفتن المعلومة، فإن الفتن كثرت، والآفات ظهرت، وكُفّر فوج من المسلمين من غير حق، والألسن فيهم طالت، فقم رحمك الله ولا تقعد كالمنافقين. (مكتوب أحمد)
تهمة السرقة من مقامات الحريري والهمذاني
تهمة السرقة من مقامات الحريري والهمذاني
وقد اتهم بير مِهِر علي شاه الغُلَرْوي والمولوي محمد حسن الفَيْضي المسيح عليه السلام بسرقة جُملٍ من مقامات الحريري والهمداني وضمِّها إلى كتبه، فردَّ عليهما بما تعريبه:
“كل ما أدّعيه هو أنني قد أوتيتُ معجزةَ القدرةِ على الإنشاء بالعربية تأييدًا من عند الله تعالى، لكي نكشف للدنيا معارف القرآن وحقائقه بهذا الأسلوب أيضًا، ولكي نسخّر ذلك الاحتراف البلاغي الذي كان قد راج في الإسلام بشكل خاطئ مشين، ونجعله خادمًا لكلام الله العزيز. فما الجدوى من إنكار هذه الدعوى ما لم يكتبوا بمثل ما كتبناه……. والأمر الذي يتطلب بحثًا وتنقيحًا الآن هو: هل لمزاعمهم هذه حظٌّ من الصدق والصحة حقًّا؟ إنما جوابه أنه فيما يخص عباد الله الذين يتلقون منه الوحي والإلهام فإن زرع هذه الشكوك في القلوب حول وحيهم كفرٌ بواحٌ ودأبُ الملعونين. إذ ليس بعارٍ على الله U أن يُلقي في قلوب عباده الملهَمين عباراتٍ وجُملا من الكتب السابقة، بل هكذا جرت سنة الله منذ القدم.
أما ظاهرة ورود عبارات أو أبيات للأدباء والشعراء القدامى – بعينها أو بشيء من التغير – في كتب المتأخرين، فلا يمكن لنا إلا أن نسمّيها تواردًا محضًا، كما تؤكد لنا التجربة الكاملة. ذلك أن الذين قد خلفوا آلافًا من الصفحات من كتاباتهم البليغة، مِن الظلم أن ننكر بعد ذلك كفاءاتهم الثابتة لمجرد ورود بضع جمل أو فقرات في كتبهم توجد عينُها أو مثلها في مصدر آخر أيضًا.
إذن فحريٌّ بهؤلاء القوم أن ينظروا في قضيتي بعين الإنصاف. لقد كُتب وطبع من مصنَّفاتي بلسان عربي فصيح بليغ حتى الآن اثنان وعشرون كتابًا مقرونةً بالتحدي، بالإضافة إلى الإعلانات المختلفة…
(بعد ذلك يذكر حضرته أسماء الكتب المشار إليها ويستأنف قائلا)… فكيف يمكن لإنسان أن يُعدّ كلّ هذه الكتب العربية التي تفيض بدقائق المعاني وشتى المعارف والحِكم بدون أن يعطَى بسطةً كاملة في العلم. هل أعدّ كل هذه الكتب العلمية مما سرقه من مقامات الحريري والهمداني؟ ومتى تتوفر في مقاماتهما ما ذكره في كتبه من معارف الدين ودقائق القرآن التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى؟ ….. لقد أعلنّا مرارًا وتكرارًا أن تعالَوا نبارزْ في تأليف كتيب بالعربية، ثم نحتكم إلى علماء العربية، فلو ثبت أن كتيبكم هو الأفصح والأبلغ فإن دعواي ستُعتبر باطلةً تمامًا. وها إني أقرّ وأعترف الآن أيضًا أنكم لو نازلتموني في ميدان كتابة التفسير بالعربية، ثم ثبت أن تفسيركم هو الأفضل والأعلى لفظًا ومعنًى، فسوف أعطيكم خمس روبيات على كل غلطة تعثرون عليها في تفسيري. فالأولى بكم – قبل أن تطيلوا عليّ ألسنتكم بالمطاعن التافهة هكذا – أن تُثبتوا علوَّ كعبكم في العربية بكتابة التفسير العربي. ذلك أن الذي لا يكون ضليعًا بفن من الفنون فإن طعنه على رجالات ذلك الفن لا يستحق الاعتبار أبدًا …
ثم يشرح حضرته مسألة اقتباس العبارات فيقول:
ويعرف الأدباء أن ورود بضع جُمل مقتبَسةٍ في كتاب يحوي آلاف الجمل والفقرات لا يقدح في قوته البلاغية أبدًا، بل إن مثل هذا الاقتباس يزيده قوةً وبلاغة. انظروا إلى التوارد المتواجد في شطر بيت واحد لدى اثنين من أصحاب المعلقات السبع:
حيث يقول أحدهما: يقولون لا تَهلكْ أسًى وتَجمَّلِ
بينما يقول الآخر: يقولون لا تَهلكْ أسًى وتَجَلَّدِ
فبالله، أخبِروني الآن أيهما سارق.
(علما أن صاحب المعلقة الأولى هو امرؤ القيس والثانية لطرفة بن العبد).
ويتابع حضرته فيقول: “إن الجاهل لو سُمح له أن يكتب ولو بسرقة من كلام الآخرين فلن يقدر على كتابة شيء، لأنه محروم أصلا من المقدرة الأساسية. أما الموهوب القادر على الكتابة المسترسلة دون أية صعوبة إذا بيّن المواضيع العلمية الحكيمة والمعارف والحقائق دونما عائق وفي عبارة بليغة مليحة فلا بد من اعتبار كلامه أمرًا معجزًا دونما شك”. (نزول المسيح ص 59 – 65)
إذن، شبهة السرقة من مقامات الحريري وغيره تسقط بالأدلة التالية:
1: تحدي المسيح الموعود عليه السلام للخصوم أن يبارزوه في الكتابة. والسارق لا يتحدى أحدا، ولا يجرؤ على ذلك.
2: الكتب التي يقال إن المسيح الموعود عليه السلام قد سرقها لا تتعدى كتابين، أو بعض الفقرات، ولكن ماذا يقال عن بقية كتبه العربية العشرين؟
3: هل يقدر رجل على سرقة أدب راقٍ جدًّا من لغة أخرى لم يتعلم منها إلا أمورا يسيرة؟ هل يقدر شخص أنهى الثالث الأساسي في مدرسة ابتدائية عربية أن يكتب كتبا مستفيدا من أدب شكسبير؟ بل لا يمكنه أن يفهم ما يقول شكسبير، فكيف يمكن أن يقلّده أو أن يسرق بعض عباراته؟
4: اقتباس بعض تعبيرات الحريري مع تحويرها أحيانا وتحميلها معاني عظيمة هو بحد ذاته إعجاز كبير، وهو يدل على مستوى أدبي يسمو على الحريري نفسه.
على القارئ أن يتصور والد جدّه الذي عاش في القرن التاسع عشر، ولم يدرس الإنجليزية إلا قليلا جدا، ولم يختلط بالإنجليز ولم يسافر إلى بلادهم، ثم أخذ يكتب شعرا ونثرا بمستوى شكسبير!! فهل هذا طبيعي؟ هل هذه سرقة؟ ثم أخذ يضمِّن هذه الكتابات الإنجليزية بمعاني سامية ومعارف عظيمة، فهل هذا ممكن؟ أي أعمى هذا الذي لا يراها آية دامغة!
هل الإعجاز مقصور على تعلم اللغة؟
هل الإعجاز مقصور على تعلم اللغة؟
ليس كل من تعلم اللغة يستطيع أن يكتب كتبا فيها، والنادر جدا أن يكتب شعرا فيها، والأندر منه أن يكتب شعرا يحمل معاني عظيمة، والأندر أن يكون الشعر يحمل عاطفة جياشة من حب الله ورسوله وكتابه. فهل يمكن أن تجتمع هذه في متقوّل؟
اللافت أكثر مِن تعلم اللغة هو القدرة على التأليف السريع بهذه اللغة، ولنقرأ ما قاله المسيح الموعود عليه السلام عن التأييد الإلهي الذي كان تلقاه أثناء الكتابة، حيث كتب ما تعريبه:
“وجدير بالذكر هنا أنني ألاحظ أن التأييد الإلهي الإعجازي يحالفني أثناءَ التأليف والكتابة بشكل خاص، حيث أشعر لدى كتابة شيء بالعربية أو الأُردية كأن أحدًا من داخلي يعلّمني. وإن كتاباتي كلها، سواء العربية منها أو الأردية أو الفارسية، تتم كتابتها بطريقين اثنين: الأول: أن سلسلة من الألفاظ والمعاني تتراءى لي على التوالي بمنتهى السهولة فأكتبها. وبالرغم من أنني لا أتجشم أي مشقة وعناء في مثل هذه الكتابة، إلا أن تلك الكلمات والمفاهيم في واقع الأمر لا تفوق قوتي العقلية كثيرًا؛ بمعنى أنه ولو لم يرافقني التأييد الإلهي بشكل خاص فإنني أستطيع بفضل الله تعالى أن أكتبها ببذل شيءٍ من الجهد وكثيرٍ من الوقت، وذلك ببركة التأييد الإلهي العادي العام الذي هو جزء لا يتجزأ من خواص الفطرة الإنسانية، والله أعلم.
والقسم الثاني من كتاباتي يتم بطريق خارق للعادة كليةً. وذلك أنني حين أكتب شيئًا بالعربية مثلاً وأحتاج إلى بعض الكلمات التي يتطلبها السياق ولا أعرفها.. فإن الوحي الإلهي يهديني إليها، حيث يُلقي روحُ القدس تلك الكلمةَ في قلبي على شكل وحي متلوٍّ، ويُجريها على لساني وأنا في حالةِ غيبوبة. وعلى سبيل المثال، احتجتُ أثناء الكتابة بالعربية إلى ما يعني “كثرة العيال” ولم أعرف تلك الكلمة، وكان السياق يتطلبها، فأُلقيَ في قلبي فورًا لفظُ “الضَفَف” على صورة وحي متلوٍّ. كذلك احتجتُ أثناء الكتابة مثلاً إلى ما يؤدّي معنى “لزوم الصمت غمًّا وغضبًا” ولم أعرف الكلمة العربية، فتلقَّى قلبي وحيًا يقول: “الوجوم”. ونفس الحال بالنسبة للجُمل العربية، فأثناء الكتابة بالعربية تَرِدُ على قلبي مئاتُ الجُمل على شكل وحي متلوٍّ، أو يُرينيها مَلاكٌ مكتوبةً على ورقة؛ وتكون بعض تلك الجمل آياتٍ من القرآن الكريم، وبعضها شبهَ آيات مع شيء من التصرف. وفي بعض الأحيان أعرف فيما بعد أن الجملة الفلانية التي كانت قد أُلقيت علي من عند الله تعالى كوحي متلوٍّ توجد أيضًا في كتاب كذا. وبما أن الله تعالى هو مالكُ كل شيء فله الخيار كله أن يُنزل على قلبي على سبيل الوحي جملةً رائعةً أو شعرًا جميلاً سبق أن ورد أيضًا في أحد الكتب أو الدواوين.” (نزول المسيح، الخزائن الروحانية مجلد 18 ص 434- 435)
أما الخطبة الإلهامية فهي المعجزة القادمة:
معجزة الخطبة الإلهامية
ملخص هذه المعجزة أن المسيح الموعود عليه السلام قد ألقى خطبة طويلة ارتجالية باللغة العربية البليغة المليئة بالمعاني من دون أي تحضير.
وقد كتب المسيح الموعود عليه السلام عن هذه الخطبة ونشرها في حياته، وكتب أنه شاهد إلقاءها قرابة مائتي شخص، ولم يعترض على هذا القول من معاصريه أحد. وهذا دليل دامغ على صحة الواقعة. ثم رواها عدد من صحابته بحضور صحابة آخرين، ونشرت أقوالهم، ولم يعترض أحد، فكانت هذه شهادات إضافية لما هو دامغ.
وقد كتب المسيح الموعود عليه السلام على غلاف هذه الخطبة:
“هذا هو الكتاب الذي أُلهِمتُ حصّة منه من رب العباد، في يوم عيدٍ من الأعياد. فقرأته على الحاضرين، بإنطاق الروح الأمين، من غير مدد الترقيم والتدوين. فلا شك أنه آية من الآيات، وما كان لبشر أن ينطق كمثلي مرتجلا مستحضرًا في مثل هذه العبارات. وكان الناس يرقبون طبعه رقبة يوم العيد، ويستطلعون بعيون المشتاق المريد. فالحمد لله الذي أراهم مقصودهم بعد الانتظار، ووجدوا مطلوبهم كبستان مذلّلة أغصانه من الثمار، وإنه صنيعة إحسان الحضرة، ومطية تبليغ الناس إلى السعادة، وإنه غيث من الله بعدما أمْحَلَتِ البلاد، وعم الفساد، ولن تجد لهذه المعارف في الآثار المنتقاة المدونة من الثقاة، بل هي حقائق أوحيت إلىّ من رب الكائنات. وإنه إظهار تام، وهل بعد المسيح كتم، وهل بعد خاتم الخلفاء على السر ختم؟ وليس من العجب أن تسمع من خاتم الأئمة نكاتا ما سُمعت من قبل من علماء الملة، بل العجب كل العجب أن يأتي المسيح الموعود والإمام المنتظر وحَكَمُ الناس وخاتم الخلفاء، ثم لا يأتي بمعرفة جديدة من حضرة الكبرياء، ويتكلم كتكلم العامة من العلماء، ولا يفرّق فرقا بيّنا بين الظلمة والضياء.
وإني سميت هذه الرسالة: خُطْبَـةً إِلْهَامِيَّـةً.. وَإِنِّي عُلّمتُها إلهَامًا مِّن رَّبِّي وَكَانَتْ آيَةً.”
كما كتب المسيح الموعود عليه السلام ما تعريبه: “في صباح عيد الأضحى تلقيت إلهاما يقول: ألقِ كلماتٍ بالعربية (تكلم شيئا بالعربية). فتم إخبار كثير من الأحباب بذلك، ولم أكن قد ألقيت أيّ خطاب بالعربية من قبل، ولكن قمتُ في ذلك اليوم بإلقاء خطبة العيد بالعربية، فأجرى الله على لساني كلاما عربيا بليغا فصيحا مليئا بالمعارف. وقد سُجِّل في الكتاب (الخطبة الإلهامية)، وهو خطاب يبلغ عدة صفحات، وألقيته ارتجالا دفعةً واحدةً واقفًا. وقد سماه الله تعالى في وحيه آية؛ لأن هذا الخطاب الارتجالي قد ظهر بمحضِ قدرة الله تعالى. إنني لا أصدق أبدا أن أديبا عربيا من أهل الفصاحة والعلم يقدر على أن يقف ويلقي مثل هذه الخطبة ارتجالا. (نـزول المسيح، الخزائن المجلد 18، ص588)
وكتب المسيح الموعود عليه السلام ما تعريبه: “في يوم 11 إبريل (نيسان) 1900م صباح عيد الأضحى تلقيت إلهاما: “اخطب اليوم بالعربية، قد أُعطيتَ القوة”. وتلقيت إلهاما (بالعربية): “كلام أفصحت من لدن رب كريم”… فقمت بعد صلاة العيد لإلقاء الخطبة باللسان العربي، ويعلم الله أنني أوتيت قوة من الغيب. والخطاب العربي الفصيح الذي كان يخرج من فمي ارتجالا كان خارج نطاق قدرتي كليّةً. ولا أظن أبدًا أن شخصا في الدنيا يقدر -من دون إلهام رباني خاص- على إلقاء خطاب بهذه الفصاحة والبلاغة يبلغ عدة صفحات من دون أن يكتبه على ورق أولا.
عندما ألقيتُ هذه الخطبة العربية التي سميت (خطبة إلهامية) بين الناس كان عدد الحضور قرابة مائتي شخص.. سبحان الله! كانت عين غيبية تتدفق عندئذ، ولا أدري ما إذا كنت أنا المتكلم أم كان ملاكا يتكلم بلساني؛ لأنني كنت أعلم أن لا دخل لي في هذا الكلام. كانت الجمل الجاهزة تخرج من فمي تلقائيا. وكل جملة منها كانت آية لي… إنها معجزة معرفية أراها اللهُ تعالى، ولا يستطيع أحد أن يقدِّم نظيرها. (حقيقة الوحي، الحزائن الروحانية، المجلد 22، ص375-376)
وكتب حضرته عليه السلام إعلانا عند نشر الخطبة جاء في مقدمته: ” أيها الإخوان من العرب وفارس والشام، وغيرها من بلاد الإسلام.. اعلموا رحمكم الله أني كتبت هذا الكتاب لكم مُلهَمًا من ربي، وأُمرتُ أن أدعوكم إلى صراط هُديتُ إليه وأؤدّبكم بأدبي. وهذا بعدما انقطع الأمل من علماء هذه الديار، وتحقّقَ أنهم لا يبالون عقبى الدار، وانقطعتْ حركتُهم إلى الصدق من تفالُجٍ لا من فالَجٍ، وما نفعهم أثرُ دواء ولا سعيُ معالج، وما بقِي لأَجارِدِ المعارفِ في أرضهم مرتع، ولا في أهلها مطمع. فعند ذلك أُلقيَ في قلبي من الحضرة، أنْ آويَ إليكم لطلب النصرة، لتكونوا أنصاري كأهل المدينة”.
وقال المنشي ظفر أحمد الكبورتهلي أحد الصحابة الذين حضروا الخطبة:
كتبَ المسيح الموعود عليه السلام رسالةً إلى الخليفة الأول في الصباح الباكر يوم عرفة -وكان الخليفة الأول موجودا في قاديان أيضا- قال فيها: اليوم وبجزء من الليل سوف أقضي بالدعاء لنفسي ولأحبابي، فاذكر لي أسماء الموجودين وأماكنهم لأدعو لهم. وكانوا قد جاءوا يصلون العيد وراء حضرته.
فكتب حضرة الخليفة الأول (المولوي نور الدين) الأسماءَ في قائمة وبعثها له.
وجُمعت صلاة المغرب والعشاء في ليلة عرفة تلك، وقال بعدها المسيح الموعود عليه السلام: عاهدتُ الله تعالى أن أقضي اليوم في الدعاء، لذا سأذهب كي لا أخلف العهد. وفي صباح العيد دخل المولوي عبد الكريم السيالكوتي على المسيح في بيته ليلتمس منه أن يخطب اليوم. فقال حضرته لقد أمرني الله نفسه بذلك، ثم تابع يقول: لقد تلقيت إلهاما البارحة يقول الله فيه: “اخطب بضع جمل عربية في الجَمْع”. وكنت أظن أنه جمْع آخر، ولعله هذا الجمع. وهذه خطبة العيد، فعندما استعد المسيح الموعود عليه السلام لإلقاء الخطبة أمر المولوي عبد الكريم السيالكوتي والمولوي نور الدين أن يقتربا منه لكتابة الخطبة. وعندما تجهز المولوي عبد الكريم والمولوي نور الدين بدأ المسيح الموعود عليه السلام خطبته بقوله: يا عباد الله وأثناء الخطبة قال لهما: اكتب الآن وإلا فإن هذه الكلمات سأنساها وستضيع. وعندما أنهى المسيح الموعود عليه السلام الخطبة وجلس، طلب معظم الإخوة من عبد الكريم أن يقف ويقرأ ترجمتها. وقبل أن يقرأ الترجمة قال المسيح: لقد جُعلت هذه الخطبة علامة على استجابة الأدعية التي قمت بها يوم عرفة وليلة العيد. أي أنني لو تمكنت من إلقاء هذه الخطبة ارتجالا فتُعتبر تلك الأدعية كلها مستجابة. والحمد لله أنه تعالى قد استجاب كل تلك الأدعية بحسب وعده.
ثم يقول الراوي: وبينما كان المولوي عبد الكريم يقرأ الترجمة، خرّ المسيح الموعود عليه السلام من فرط الحماس ساجدا، فسجد معه الحضور جميعا سجدة شكر. ولما رفع المسيح الموعود عليه السلام رأسه من السجود قال لقد رأيت للتو كلمة “مبارك” مكتوبة بالحبر الأحمر. وكأن هذا آية على الاستجابة. (ملفوظات، جلد2، ص29-31)
ويقول الراوي المنشي ظفر أحمد الكبورتهلوي:
بدأ حضرته إلقاء الخطبة العربية ارتجالا بكلمات: يا عباد الله، ولم يلقِ منها إلا بضعة جمل حتى استولى على الحضور -الذين كان عددهم حوالي مائتي شخص- حالة من الوجد.. كانوا مستغرقين في الإصغاء إلى خطبته استغراقا لا يوصَف، وكان مما يدل على تأثير إعجازي للخطبة أن الجميع كانوا ينصتون إليها مع أنه لم يعلم منهم العربية إلا بضعة أشخاص. (روايات الصحابة، مجلد 13، ص385-386، وتاريخ الأحمدية، مجلد 3، ص92)
ويقول الراوي نفسه أيضا: “أما المسيح الموعود عليه السلام فكان يبدو من صورته ولسانه وأسلوب كلامه أن هذا الشخص السماوي إنسان من عالم آخر، يتكلم رب العرش على لسانه. كنا نشعر بتغير ملموس في حالته وصوته أثناء الخطبة. كان صوته ينخفض ويبدو رخيما ليّنًا عند نهاية الخطبة في آخر كل جملة. كانت عيونه عندها مغلقة ووجهه أحمر يشع نورا. وقد قال حضرته أثناء الخطبة للذين يكتبونها: إذا لم تفهموا لفظا أو كلمة فاسألوني فورا، فلعلي لن أتمكن من أن أخبركم بها فيما بعد. ثم إنه عليه السلام كان يتكلم بسرعة بحيث كان يتعذر على القلم أن يواكب لسانه. ولهذين السببين كان المولوي عبد الكريم والمولوي نور الدين اللذان قد عُهد إليهما كتابة الخطبة يضطران في بعض الأحيان أن يسألاه عن بعض الكلمات. (سيرة المهدي، جز3، ص90-91).
الخطبة الالهامية
هذه الخطبة حضرها مئتا شخص، وسجلها اثنان من كبار صحابة المسيح الموعود عليه السلام، وفيما يلي نصها كاملا:
يَا عِبَادَ اللهِ.. فَكِّرُوا في يَوْمِكُمْ هذا يَوْمِ الأَضْحَى، فَإِنَّهُ أُودِعَ أَسْرَارًا لأُولِي النُّهَى. وَتَعْلَمُونَ أَنَّ في هذا الْيَوْمِ يُضَحَّى بِكَثِيرٍ مِنَ الْعَجْمَاوَاتِ، وَتُنْحَرُ آبَالٌ مِنَ الْجِمَالِ وَخَنَاطِيلُ مِنَ الْبَقَرَاتِ، وَتُذْبَحُ أَقَاطِيعُ مِنَ الْغَنَمِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ رَبِّ الْكَائِنَاتِ. وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ مِن ابْتِدَاءِ زَمَانِ الإِسْلامِ، إِلَى هذِهِ الأَيَّامِ. وَظَنِّي أَنَّ الأَضَاحِي في شَرِيعَتِنَا الْغَرَّاءِ، قَدْ خَرَجَتْ مِنْ حَدِّ الإِحْصِاءِ، وَفَاقَتْ ضَحَايَا الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ مِنْ أُمَمِ الأَنْبِيَاءِ، وَبَلَغَتْ كَثْرَةُ الذَّبَائِحِ إِلَى حَدٍّ غُطِّيَ بِهِ وَجْهُ الأَرْضِ مِنَ الدِّمَاءِ، حَتَّى لَوْ جُمِعَتْ دِمَاؤُهَا وَأُرِيدَ إِجْرَاؤُها، لَجَرَتْ مِنْهَا الأَنْهَارُ، وَسَالَتِ الْبِحَارُ، وَفَاضَتِ الْغُدْرُ وَالأَوْدِيَةُ الْكِبَارُ.
وَقَدْ عُدَّ هذا الْعَمَلُ في مِلَّتِنَا مِمَّا يُقَرِّبُ إِلَى اللهِ سُبْحَانَه، وَحُسِبَ كَمَطِيئَةٍ تُحَاكِي الْبَرْقَ في السَّيْرِ وَلُمَعَانَه؛ فَلأَجْلِ ذَلِكَ سُمِّيَ الضَّحَايَا قُرْبَانًا، بِمَا وَرَدَ أَنَّهَا تَزِيدُ قُرْبًا وَلُقْيَانًا، كُلَّ مَنْ قَرَّبَ إِخْلاَصًا وَتَعَبُّدًا وَإِيمَانًا. وَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ نُسُكِ الشَّرِيعَةِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ بِالنَّسِيكَةِ. وَالنُّسُكُ الطَّاعَةُ وَالْعِبَادَةُ في اللِّسَانِ الْعَرَبِيَّةِ، وَكَذَلِكَ جَاءَ لَفْظُ النُّسُكِ بِمَعْنَى ذَبْحِ الذَّبِيحَةِ. فَهذا الاشْتِرَاكُ يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى أَنَّ الْعَابِدَ في الْحَقِيقَةِ، هُوَ الَّذِي ذَبَحَ نَفْسَهُ وَقُوَاهُ، وَكُلَّ مَنْ أَصْبَاهُ، لِرِضَى رَبِّ الْخَلِيقَةِ، وَذَبَّ الْهَوَى حَتَّى تَهَافَتَ وَانْمَحَى، وَذَابَ وَغَابَ وَاخْتَفَى، وَهَبَّتْ عَلَيْهِ عَوَاصِفُ الْفَنَاءِ، وَسَفَتْ ذَرَّاتِهِ شَدَائِدُ هذِهِ الْهَوْجَاءِ.
وَمَنْ فَكَّرَ في هَذَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ الْمُشْتَرَكَيْنِ، وَتَدَبَّرَ الْمَقَامَ بِتَيَقُّظِ الْقَلْبِ وَفَتْحِ الْعَيْنَيْنِ، فَلا يَبْقَى لَهُ خِفَاءٌ وَلا مِرَاءٌ، في أَنَّ هذا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ الْمُنْجِيَةَ مِنَ الْخَسَارَةِ، هِيَ ذَبْحُ النَّفْسِ الأَمَّارَةِ، وَنَحْرُهَا بِمُدَى الانْقِطَاعِ إِلَى اللهِ ذِي الآلاءِ وَالأَمْرِ وَالإِمَارَةِ، مَعَ تَحَمُّلِ أَنْوَاعِ الْمَرَارَةِ، لِتَنْجُوَ النَّفْسُ مِنْ مَوْتِ الْغَرَارَةِ. وَهذا هُوَ مَعْنَى الإِسْلامِ، وَحَقِيقَةُ الانْقِيَادِ التَّامِّ. وَالْمُسْلِمُ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَهُ نَحَرَ نَاقَةَ نَفْسِهِ وَتَلَّهَا لِلْجَبِينِ، وَمَا نَسِيَ الْحَيْنَ في حِينٍ.
فَحَاصِلُ الْكَلامِ.. أَنَّ النُّسُكَ وَالضَّحَايَا في الإِسْلامِ، هِيَ تَذْكِرَةٌ لِهذا الْمَرَامِ، وَحَثٌّ عَلَى تَحْصِيلِ هذا المَقَامِ، وَإِرْهَاصٌ لِحَقِيقَةٍ تَحْصُلُ بَعْدَ السُّلُوكِ التَّامِّ. فَوَجَبَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَّمُوْمِنَةٍ كَانَ يَبْتَغِي رِضَاءَ اللهِ الْوَدُودِ، أَنْ يَفْهَمَ هذِهِ الْحَقِيقَةَ وَيَجْعَلَهَا عَيْنَ الْمَقْصُودِ، وَيُدْخِلَهَا في نَفْسِهِ حَتَّى تَسْرِيَ في كُلِّ ذَرَّةِ الْوُجُودِ، وَلا يَهْدَأْ وَلا يَسْكُنْ قَبْلَ أَدَاءِ هذِهِ الضَّحِيَّةِ لِلرَّبِّ الْمَعْبُودِ، وَلا يَقْنَعْ بِنَمُوذَجٍ وَقِشْرٍ كَالْجُهَلاءِ وَالْعُمْيَانِ، بَلْ يُؤَدِّي حَقِيقَةَ أَضْحَاتِهِ، وَيَقْضِي بِجَمِيعِ حَصَاتِهِ وَرُوحِ تُقَاتِهِ، رُوحَ الْقُرْبَانِ. هذا هُوَ مُنْتَهَى سُلُوكِ السَّالِكِينَ، وَغايَةُ مَقْصِدِ الْعَارِفِينَ، وَعَلَيْهِ يُخْتَتِمُ جَمِيعُ مَدَارِجِ الأَتْقِيَاءِ، وَبِهِ يَكْمُلُ سَائِرُ مَرَاحِلِ الصِّدِّيقِينَ وَالأَصْفِيَاءِ، وَإِلَيْهِ يَنْتَهِي سَيْرُ الأَوْلِيَاءِ.
وَإِذَا بَلَغْتَ إِلَى هذا فَقَدْ بَلَّغْتَ جُهْدَكَ إِلَى الانْتِهَاءِ، وَفُزْتَ بِمَرْتَبَةِ الْفَنَاءِ، فَحِينَئِذٍ تَصِلُ شَجَرَةُ سُلُوكِكَ إِلَى أَتَمِّ النَّمَاءِ، وَتَبْلُغُ عُنُقُ رُوحِكَ إِلَى لُعَاعِ رَوْضَةِ الْقُدْسِ وَالْكِبْرِيَاءِ، كَالنَّاقَةِ الْعَنْقَاءِ، إِذَا أَوْصَلَتْ عُنُقَهَا إِلَى الشَجَرَةِ الْخَضْرَاءِ. وَبَعْدَ ذَلِكَ جَذَبَاتٌ وَنَفَحَاتٌ وَتَجَلِّيَاتٌ مِنَ الَحَضْرَةِ الأَحَدِيَّةِ، لِيَقْطَعَ بَعْضَ بَقَايَا عُرُوقِ الْبَشَرِيَّةِ. وَبَعْدَ ذَلِكَ إِحْيَاءٌ، وَإِبْقَاءٌ وَإِدْنَاءٌ، لِلنَّفْسِ الْمُطْمَئِنَّةِ الرَّاضِيَةِ الْمَرْضِيَّةِ الْفَانِيَةِ، لِيَسْتَعِدَّ الْعَبْدُ لِقَبُولِ الْفَيْضِ بَعْدَ الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ.
وَبَعْدَ ذَلِكَ يُكْسَى الإِنْسَانُ الْكَامِلُ حُلَّةَ الْخِلافَةِ مِنَ الْحَضْرَةِ، وَيُصَبَّغُ بِصِبْغِ صِفَاتِ الأُلُوهِيِّةِ، عَلَى وَجْهِ الظِّلِّيَّةِ، تَحْقِيقًا لِّمَقَامِ الْخِلافَةِ. وَبَعْدَ ذَلِكَ يَنْزِلُ إِلَى الْخَلْقِ لِيَجْذِبَهُمْ إِلَى الرُّوحَانِيَّةِ، وَيُخْرِجَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ الأَرْضِيَّةِ، إِلَى الأَنْوَارِ السَّمَاوِيَّةِ، وَيُجْعَلُ وَارِثًا لِكُلِّ مَنْ مَضَى مِنْ قَبْلِهِ مِنَ النَّبِيّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّرَايَةِ، وَشُمُوسِ الْقُرْبِ وَالْوِلايَةِ، وَيُعْطَى لَهُ عِلْمُ الأَوَّلِينَ، وَمَعَارِفُ السَّابِقِينَ مِنْ أُولِي الأَبْصارِ وَحُكَماءِ الْمِلَّةِ، تَحْقِيقًا لِمَقَامِ الْورَاثَةِ.
ثُمَّ يَمْكُثُ هذا الْعَبْدُ في الأَرْضِ إِلَى مُدَّةٍ شَاءَ رَبُّهُ رَبُّ الْعِزَّةِ، لِيُنِيرَ الْخَلْقَ بِنُورِ الْهِدَايَةِ. وَإِذَا أَنَارَ النَّاسَ بِنُورِ رَبِّهِ أَوْ بَلَّغَ الأَمْرَ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ، فَحِينَئِذٍ يَتِمُّ اسْمُهُ وَيَدْعُوهُ رَبُّهُ وَيُرْفَعُ رُوحُهُ إِلَى نُقْطَتِهِ النَّفْسِيَّةِِِ. وَهذا هُوَ مَعْنَى الرَّفْعِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَالْمَرْفُوعُ مَنْ يُسْقَى كَأْسَ الْوِصَالِ، مِنْ أَيْدِي الْمَحْبُوبِ الَّذِي هُوَ لُجَّةُ الْجَمَالِ، وَيُدْخَلُ تَحْتَ رِدَاءِ الرُّبُوبِيَّةِ، مَعَ الْعُبُودِيَّةِ الأَبَدِيَّةِ. وَهذا آخِرُ مَقَامٍ يَبْلُغُهُ طَالِبُ الْحَقِّ في النَّشْأَةِ الإِنْسِانِيَّةِ. فَلا تَغْفَلُوا عَنْ هذا الْمَقَامِ يَا كَافَّةَ الْبَرَايَا، وَلا عَنِ السِّرِّ الَّذِي يُوجَدُ في الضَّحَايَا، وَاجْعَلُوا الضَّحَايَا لِرُؤْيَةِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ كَالْمَرَايَا، وَلا تَذْهَلُوا عَنْ هذِهِ الْوَصَايَا، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا رَبَّهُمْ وَالْمَنَايَا.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
نَحْمَدُهُ وَنُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ الْكَرِيمِ
نَحْمَدُهُ وَنُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ الْكَرِيمِ
يَا عِبَادَ اللهِ.. فَكِّرُوا في يَوْمِكُمْ هذا يَوْمِ الأَضْحَى، فَإِنَّهُ أُودِعَ أَسْرَارًا لأُولِي النُّهَى. وَتَعْلَمُونَ أَنَّ في هذا الْيَوْمِ يُضَحَّى بِكَثِيرٍ مِنَ الْعَجْمَاوَاتِ، وَتُنْحَرُ آبَالٌ مِنَ الْجِمَالِ وَخَنَاطِيلُ مِنَ الْبَقَرَاتِ، وَتُذْبَحُ أَقَاطِيعُ مِنَ الْغَنَمِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ رَبِّ الْكَائِنَاتِ. وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ مِن ابْتِدَاءِ زَمَانِ الإِسْلامِ، إِلَى هذِهِ الأَيَّامِ. وَظَنِّي أَنَّ الأَضَاحِي في شَرِيعَتِنَا الْغَرَّاءِ، قَدْ خَرَجَتْ مِنْ حَدِّ الإِحْصِاءِ، وَفَاقَتْ ضَحَايَا الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ مِنْ أُمَمِ الأَنْبِيَاءِ، وَبَلَغَتْ كَثْرَةُ الذَّبَائِحِ إِلَى حَدٍّ غُطِّيَ بِهِ وَجْهُ الأَرْضِ مِنَ الدِّمَاءِ، حَتَّى لَوْ جُمِعَتْ دِمَاؤُهَا وَأُرِيدَ إِجْرَاؤُها، لَجَرَتْ مِنْهَا الأَنْهَارُ، وَسَالَتِ الْبِحَارُ، وَفَاضَتِ الْغُدْرُ وَالأَوْدِيَةُ الْكِبَارُ.
وَقَدْ عُدَّ هذا الْعَمَلُ في مِلَّتِنَا مِمَّا يُقَرِّبُ إِلَى اللهِ سُبْحَانَه، وَحُسِبَ كَمَطِيئَةٍ تُحَاكِي الْبَرْقَ في السَّيْرِ وَلُمَعَانَه؛ فَلأَجْلِ ذَلِكَ سُمِّيَ الضَّحَايَا قُرْبَانًا، بِمَا وَرَدَ أَنَّهَا تَزِيدُ قُرْبًا وَلُقْيَانًا، كُلَّ مَنْ قَرَّبَ إِخْلاَصًا وَتَعَبُّدًا وَإِيمَانًا. وَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ نُسُكِ الشَّرِيعَةِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ بِالنَّسِيكَةِ. وَالنُّسُكُ الطَّاعَةُ وَالْعِبَادَةُ في اللِّسَانِ الْعَرَبِيَّةِ، وَكَذَلِكَ جَاءَ لَفْظُ النُّسُكِ بِمَعْنَى ذَبْحِ الذَّبِيحَةِ. فَهذا الاشْتِرَاكُ يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى أَنَّ الْعَابِدَ في الْحَقِيقَةِ، هُوَ الَّذِي ذَبَحَ نَفْسَهُ وَقُوَاهُ، وَكُلَّ مَنْ أَصْبَاهُ، لِرِضَى رَبِّ الْخَلِيقَةِ، وَذَبَّ الْهَوَى حَتَّى تَهَافَتَ وَانْمَحَى، وَذَابَ وَغَابَ وَاخْتَفَى، وَهَبَّتْ عَلَيْهِ عَوَاصِفُ الْفَنَاءِ، وَسَفَتْ ذَرَّاتِهِ شَدَائِدُ هذِهِ الْهَوْجَاءِ.
وَمَنْ فَكَّرَ في هَذَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ الْمُشْتَرَكَيْنِ، وَتَدَبَّرَ الْمَقَامَ بِتَيَقُّظِ الْقَلْبِ وَفَتْحِ الْعَيْنَيْنِ، فَلا يَبْقَى لَهُ خِفَاءٌ وَلا مِرَاءٌ، في أَنَّ هذا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ الْمُنْجِيَةَ مِنَ الْخَسَارَةِ، هِيَ ذَبْحُ النَّفْسِ الأَمَّارَةِ، وَنَحْرُهَا بِمُدَى الانْقِطَاعِ إِلَى اللهِ ذِي الآلاءِ وَالأَمْرِ وَالإِمَارَةِ، مَعَ تَحَمُّلِ أَنْوَاعِ الْمَرَارَةِ، لِتَنْجُوَ النَّفْسُ مِنْ مَوْتِ الْغَرَارَةِ. وَهذا هُوَ مَعْنَى الإِسْلامِ، وَحَقِيقَةُ الانْقِيَادِ التَّامِّ. وَالْمُسْلِمُ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَهُ نَحَرَ نَاقَةَ نَفْسِهِ وَتَلَّهَا لِلْجَبِينِ، وَمَا نَسِيَ الْحَيْنَ في حِينٍ.
فَحَاصِلُ الْكَلامِ.. أَنَّ النُّسُكَ وَالضَّحَايَا في الإِسْلامِ، هِيَ تَذْكِرَةٌ لِهذا الْمَرَامِ، وَحَثٌّ عَلَى تَحْصِيلِ هذا المَقَامِ، وَإِرْهَاصٌ لِحَقِيقَةٍ تَحْصُلُ بَعْدَ السُّلُوكِ التَّامِّ. فَوَجَبَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَّمُوْمِنَةٍ كَانَ يَبْتَغِي رِضَاءَ اللهِ الْوَدُودِ، أَنْ يَفْهَمَ هذِهِ الْحَقِيقَةَ وَيَجْعَلَهَا عَيْنَ الْمَقْصُودِ، وَيُدْخِلَهَا في نَفْسِهِ حَتَّى تَسْرِيَ في كُلِّ ذَرَّةِ الْوُجُودِ، وَلا يَهْدَأْ وَلا يَسْكُنْ قَبْلَ أَدَاءِ هذِهِ الضَّحِيَّةِ لِلرَّبِّ الْمَعْبُودِ، وَلا يَقْنَعْ بِنَمُوذَجٍ وَقِشْرٍ كَالْجُهَلاءِ وَالْعُمْيَانِ، بَلْ يُؤَدِّي حَقِيقَةَ أَضْحَاتِهِ، وَيَقْضِي بِجَمِيعِ حَصَاتِهِ وَرُوحِ تُقَاتِهِ، رُوحَ الْقُرْبَانِ. هذا هُوَ مُنْتَهَى سُلُوكِ السَّالِكِينَ، وَغايَةُ مَقْصِدِ الْعَارِفِينَ، وَعَلَيْهِ يُخْتَتِمُ جَمِيعُ مَدَارِجِ الأَتْقِيَاءِ، وَبِهِ يَكْمُلُ سَائِرُ مَرَاحِلِ الصِّدِّيقِينَ وَالأَصْفِيَاءِ، وَإِلَيْهِ يَنْتَهِي سَيْرُ الأَوْلِيَاءِ.
وَإِذَا بَلَغْتَ إِلَى هذا فَقَدْ بَلَّغْتَ جُهْدَكَ إِلَى الانْتِهَاءِ، وَفُزْتَ بِمَرْتَبَةِ الْفَنَاءِ، فَحِينَئِذٍ تَصِلُ شَجَرَةُ سُلُوكِكَ إِلَى أَتَمِّ النَّمَاءِ، وَتَبْلُغُ عُنُقُ رُوحِكَ إِلَى لُعَاعِ رَوْضَةِ الْقُدْسِ وَالْكِبْرِيَاءِ، كَالنَّاقَةِ الْعَنْقَاءِ، إِذَا أَوْصَلَتْ عُنُقَهَا إِلَى الشَجَرَةِ الْخَضْرَاءِ. وَبَعْدَ ذَلِكَ جَذَبَاتٌ وَنَفَحَاتٌ وَتَجَلِّيَاتٌ مِنَ الَحَضْرَةِ الأَحَدِيَّةِ، لِيَقْطَعَ بَعْضَ بَقَايَا عُرُوقِ الْبَشَرِيَّةِ. وَبَعْدَ ذَلِكَ إِحْيَاءٌ، وَإِبْقَاءٌ وَإِدْنَاءٌ، لِلنَّفْسِ الْمُطْمَئِنَّةِ الرَّاضِيَةِ الْمَرْضِيَّةِ الْفَانِيَةِ، لِيَسْتَعِدَّ الْعَبْدُ لِقَبُولِ الْفَيْضِ بَعْدَ الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ.
وَبَعْدَ ذَلِكَ يُكْسَى الإِنْسَانُ الْكَامِلُ حُلَّةَ الْخِلافَةِ مِنَ الْحَضْرَةِ، وَيُصَبَّغُ بِصِبْغِ صِفَاتِ الأُلُوهِيِّةِ، عَلَى وَجْهِ الظِّلِّيَّةِ، تَحْقِيقًا لِّمَقَامِ الْخِلافَةِ. وَبَعْدَ ذَلِكَ يَنْزِلُ إِلَى الْخَلْقِ لِيَجْذِبَهُمْ إِلَى الرُّوحَانِيَّةِ، وَيُخْرِجَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ الأَرْضِيَّةِ، إِلَى الأَنْوَارِ السَّمَاوِيَّةِ، وَيُجْعَلُ وَارِثًا لِكُلِّ مَنْ مَضَى مِنْ قَبْلِهِ مِنَ النَّبِيّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّرَايَةِ، وَشُمُوسِ الْقُرْبِ وَالْوِلايَةِ، وَيُعْطَى لَهُ عِلْمُ الأَوَّلِينَ، وَمَعَارِفُ السَّابِقِينَ مِنْ أُولِي الأَبْصارِ وَحُكَماءِ الْمِلَّةِ، تَحْقِيقًا لِمَقَامِ الْورَاثَةِ.
ثُمَّ يَمْكُثُ هذا الْعَبْدُ في الأَرْضِ إِلَى مُدَّةٍ شَاءَ رَبُّهُ رَبُّ الْعِزَّةِ، لِيُنِيرَ الْخَلْقَ بِنُورِ الْهِدَايَةِ. وَإِذَا أَنَارَ النَّاسَ بِنُورِ رَبِّهِ أَوْ بَلَّغَ الأَمْرَ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ، فَحِينَئِذٍ يَتِمُّ اسْمُهُ وَيَدْعُوهُ رَبُّهُ وَيُرْفَعُ رُوحُهُ إِلَى نُقْطَتِهِ النَّفْسِيَّةِِِ. وَهذا هُوَ مَعْنَى الرَّفْعِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَالْمَرْفُوعُ مَنْ يُسْقَى كَأْسَ الْوِصَالِ، مِنْ أَيْدِي الْمَحْبُوبِ الَّذِي هُوَ لُجَّةُ الْجَمَالِ، وَيُدْخَلُ تَحْتَ رِدَاءِ الرُّبُوبِيَّةِ، مَعَ الْعُبُودِيَّةِ الأَبَدِيَّةِ. وَهذا آخِرُ مَقَامٍ يَبْلُغُهُ طَالِبُ الْحَقِّ في النَّشْأَةِ الإِنْسِانِيَّةِ. فَلا تَغْفَلُوا عَنْ هذا الْمَقَامِ يَا كَافَّةَ الْبَرَايَا، وَلا عَنِ السِّرِّ الَّذِي يُوجَدُ في الضَّحَايَا، وَاجْعَلُوا الضَّحَايَا لِرُؤْيَةِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ كَالْمَرَايَا، وَلا تَذْهَلُوا عَنْ هذِهِ الْوَصَايَا، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا رَبَّهُمْ وَالْمَنَايَا.
الخطبة الالهامية
وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى هذا السِّرِّ الْمَكْتُومِ، في كَلامِ رَبِّنَا الْقَيُّومِ، فَقَالَ وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ: ]قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[. فَانْظُرْ كَيْفَ فَسَّرَ النُّسُكَ بِلَفْظِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى حَقِيقَةِ الأَضْحَاةِ، فَفَكِّرُوا فِيهِ يَا ذَوِي الْحَصَاةِ. وَمَنْ ضَحَّى مَعَ عِلْمِ حَقِيقَةِ ضَحِيَّتِهِ، وَصِدْقِ طَوِيَّتِهِ، وَخُلُوصِ نِيَّتِهِ، فَقَدْ ضَحَّى بِنَفْسِهِ وَمُهْجَتِهِ، وَأَبْنَائِهِ وَحَفَدَتِهِ، وله أجر عظيم، كأجر إبراهيم عند ربه الكريم. وإليه أشار سيّدُنا المصطفى، ورسولنا المجتبى، وإمام المتقين، وخاتم النبيين، وقال وهو بعد الله أصدقُ الصادقين: إن الضحايا هي المطايا، تُوصِل إلى ربِّ البرايا، وتمحو الخطايا، وتدفع البلايا. هذا ما بلغَنا مِن خير البريّة، عليه صلوات الله والبركات السنيّة، وإنه أومأَ فيه إلى حِكَم الضحيّة، بكلمات كالدرر البهيّة.
فالأسف كل الأسف أن أكثر الناس لا يعلمون هذه النكاتِ الخفيّة، ولا يتّبعُون هذه الوصيّة. وليس عندهم معنى العيد، مِن دون الغسل ولَبْسِ الجديد، والخَضْمِ والقَضْمِ مع الأهل والخدم والعبيد، ثم الخروج بالزينة للتعييد كالصناديد. وترى الأطائبَ من الأطعمة منتهى طَرَبِهم في هذا اليوم، والنفائسَ من الألبسة غايةَ أَرَبِهم لإراءة القوم. ولا يَدْرون ما الأَضْحاةُ، ولأَيِّ غرضٍ يُذبَح الغنمُ والبقرات. وعندهم عيدُهم من البُكرة إلى العشيّ، ليس إلا للأكل والشرب والعيش الهنيّ، واللباس البهيّ، والفرس الشريّ، واللحم الطريّ. وما ترى عَمَلَهم في يومهم هذا إلا اكتساءَ الناعماتِ، والمشطَ والاكتحالَ وتضميخَ الملبوسات، وتسويةَ الطُرَر والذوائب كالنساء المتبرجات، ثم نقراتٍ كنقرة الدجاجة في الصلاة، مع عدم الحضور وهجومِ الوساوس والشتات، ثم التمايلَ إلى أنواع الأغذية والمطعومات، ومَلْءِ البطونِ بألوان النِّعَم كالنَّعَم والعجماوات، والميلَ إلى الملاهي والملاعب والجهلات، وسَرْح النفوس في مراتع الشهوات، والركوبَ على الأفراس، والعجل والعَناسِ، والجِمال والبغال ورقاب الناس، مع أنواع من التزيينات، وإفناءَ اليوم كله في الخزعبيلات، والهدايا من القلايا، والتفاخر بلحوم البقرات والجدايا، والأفراح والمِراح، والجذبات والجِماح، والضحك والقهقهة، بإبداء النواجذ والثنايا، والتشوق إلى رقص البغايا، وبَوسِهن وعِناقهن، وبعد هذا نِطاقِهن.
فإنا لله على مصائب الإسلام، وانقلاب الأيام! ماتت القلوب، وكثرت الذنوب، واشتدت الكروب. فعند هذه الليلة الليلاء، وظلمات الهوجاء، اقتضى رحمُ الله نورَ السماء. فأنا ذلك النور، والمجدِّد المأمور، والعبد المنصور، والمهدي المعهود، والمسيح الموعود. وإني نزلتُ بمنـزلةٍ مِن ربي لا يعلَمها أحد من الناس. وإن سِرِّي أَخفَى وأَنْأَى مِن أكثر أهل الله فضلاً عن عامة الأناس. وإن مقامي أبعدُ من أيدي الغوّاصين، وصعودي أرفعُ من قياس القائسين. وإن قدمي هذه أسرعُ من القِلاص في مسالك رب الناس. فلا تقيسوني بأحد ولا أحدًا بي، ولا تُهلِكوا أنفسكم بالريب والعَماس. وإني لبٌّ لا قشرَ معه، وروحٌ لا جسدَ معه، وشمس لا يحجبها دخانُ الشِّماس. واطلبوا مثلي، ولن تجدوه وإن تطلبوه بالنبراس. ولا فخرَ، ولكن تحديث لنعم الله الذي هو غارس لهذا الغراس. وإني غُسّلتُ بماء النور، وطُهّرتُ بعين القُدْسِ من الأوساخ والأدناس، وسمّاني ربي أحمدَ، فاحمَدُوني ولا تشتِموني ولا تُوصِلوا أمركم إلى الإبلاس. ومَن حمدني وما غادرَ مِن نوعِ حمدٍ فما مانَ، ومَن كذّب هذا البيانَ فقد مانَ وأغضب الرحمنَ. فويلٌ للذي شَكَّ، وفسَخ العهدَ وفَكَّ، ولوَّث بطائفٍ من الجنّ الجَنانَ.
وإني جئت من الحضرة الرفيعة العالية، ليُرِيَ بي ربي مِن بعض صفاته الجلالية والجمالية، أعني دَفْعَ الضير، وإفاضةَ الخير. فإن الزمان كان محتاجا إلى دافعِ شرٍّ طَغى، وإلى رافعِ خيرٍ انحطّ واختفى، فاقتضتْ العنايةُ الإلهية أن يُعطَى الزمانُ ما سأل بلسان الحال، ويُرحَم طبقاتُ النساء والرجال، فجعَلني مَظْهَرَ المسيحِ عيسى ابن مريم لدفعِ الضرِّ وإبادةِ موادِّ الغواية، وجعلني مظهرَ النبيِّ المهديِّ أحمَدَ أكرَمَ لإفاضةِ الخير وإعادةِ عِهاد الدراية والهداية، وتطهيرِ الناس من درن الغفلة والجناية. فجئتُ في الحُلّتَين المَهْزُودتين المصبَّغتين بصبغ الجلال وصبغ الجمال، وأُعطيتُ صفةَ الإفناء والإحياء من الربّ الفعّال.
فأما الجلال الذي أُعطيتُ فهو أثرٌ لِبُروزي العِيسويِّ من الله ذي الجلالž، لأُبيدَ به شَرَّ الشِّركِ الموّاج الموجود في عقائد أهل الضلال، المشتعل بكمال الاشتعال، الذي هو أكبر من كل شرّ في عين الله عالِم الأحوال، ولأهدِمَ به عمودَ الافتراء على الله والافتعال.
وأما الجمال الذي أُعطيتُ فهو أثرٌ لِبُروزي الأحمديِّ من الله ذي اللطف والنوال، لأُعيدَ به صلاح التوحيد المفقود من الألسن والقلوب والأقوال والأفعال، وأقيمَ به أَمْرَ التديّن والانتحال.
وأُمرتُ أن أقتل خنازير الإفساد والإلحاد والإضلال، الذين يدوسون دُرَرَ الحقّ تحت النعال، ويُهلِكون حرث الناس ويخرّبون زروع الإيمان والتورع والأعمال. وقتلي هذا بحربة سماوية لا بالسيوف والنِّبال، كما هو زعم المحرومين من الحق وصدق المقال، فإنهم ضلّوا وأضلّوا كثيرًا من الجهّال. وإن الحرب حُرّمتْ عليّ، وسبق لي أن أضع الحرب ولا أتوجه إلى القتال. فلا جهادَ إلا جهاد اللسان والآيات والاستدلال.
وكذلك أُمرتُ أن أملأ بيوتَ المؤمنين وجُرُبَهم من المال، ولكن لا باللُّجَين والدجّال، بل بمال العلم والرشد والهداية واليقين على وجه الكمال، وجعلِ الإيمان أثبَتَ من الجبال، وتبشيرِ المُثقَلِين تحت الأثقال. فبشرى لكم قد جاءكم المسيح، ومسَحه القادرُ وأُعطيَ له الكلام الفصيح، وإنه يعصمكم مِن فِرقةٍ هي للإضلال تسيح، وإلى الله يدعو ويصيح، وكلَّ شبهةٍ يُزيل ويُزيح. وطوبى لكم قد جاءكم المهدي المعهود، ومعه المال الكثير والمتاع المنضود. وإنه يسعى ليردَّ إليكم الغنى المفقودَ، ويستخرجَ الإقبالَ الموءودَ. ما كان حديثا يفترى، بل نور من الله مع آيات كبرى.
أيها الناس.. إني أنا المسيح المحمدي، وإني أنا أحمَدُ المهدي. وإن ربي معي إلى يوم لَحْدي من يومِ مهدي. وإني أُعطيتُ ضِرامًا أكّالاً، وماءً زُلالاً، وأنا كوكبٌ يمانيّ، ووابلٌ روحانيّ. إيذائي سِنانٌ مذرَّب، ودعائي دواءٌ مجرَّب. أُرِي قومًا جلالا، وقومًا آخرين جمالا، وبِيَدِي حربةٌ أُبيدُ بها عاداتِ الظلم والذنوب، وفي الأخرى شربةٌ أُعيدُ بها حياةَ القلوب. فاسٌ للإفناء، وأنفاسٌ للإحياء. أما جلالي فبما قُصِدَ كابن مريم استيصالي، وأما جمالي فبما فارتْ رحمتي كسَيِّدي أحمَدَ لأَهدِيَ قومًا غفلوا عن الربّ المتعالي.
أفأنتم تعجَبون، وإلى الزمان وضرورته لا تلتفتون؟ ألا ترون إلى زمانٍ احتاج إلى الربّ الفعّال، ليُرِيَ لقومٍ صفةَ جلاله ولقومٍ صفةَ الجمال؟ وقد ظهرت الآياتُ، وتبيّنت العلامات، وانقطعت الخصومات، فما لكم لا تنظرون؟ وانكسفت الشمسُ والقمر في رمضان فلا تعرفون. ومات بعض الناس بنبأٍ من الله وقُتِلَ البعض فلا تفكِّرون. ونزلتْ لي آيٌ كثيرة فلا تبالون. وشهدتْ لي الأرض والسماء، والماء والعَفاء فلا تخافون. وتظاهَرَ لي العقلُ والنقل والعلامات والآيات، وتظاهرت الشهاداتُ والرؤيا والمكاشفات، ثم أنتم تنكرون. وإن لها شأنا عظيما لقوم يتدبرون. وطلَع ذو السِّنينَ، ومضى من هذه المائة خُمْسُها إلا قليل من سنين، فأين المجدِّد إن كنتم تعلمون؟ ونزل من السماء الطاعونُ، ومُنِعَ الحجُّ وكثُر المَنونُ، واختصمَ الفِرقُ على معدنٍ من ذهبٍ وهم يقاتلون. وعلا الصليب، وأضحى الإسلام يسيب ويغيب، كأنه الغريب، وكثُر الفسق والفاسقون. وحُبِّبَ إلى النفوس الخمرُ، والقَمْرُ والزَّمْرُ، وتراءَى الزانون المجالحون وقَلَّ المتّقون. وتجلَّى وقتُ ربّنا وتمّ ما قال النبيون. فبأي حديث بعده تؤمنون؟
أيها الناس، قُوموا للهِ زُرافاتٍ وفُرادى فُرادى، ثم اتّقوا اللهَ وفَكِّروا كالذي ما بخل وما عادى، أليس هذا الوقت وقتَ رحمِ الله على العباد، ووقتَ دفعِ الشرّ وتدارُكِ عَطَشِ الأكباد بالعِهاد؟ أليس سيلُ الشرِّ قد بلَغ انتهاءَه، وذيلُ الجهلِ طوَّل أرجاءَه، وفسَد المُلك كله وشكَر إبليس جهلاءَه؟ فاشكروا اللهَ الذي تذكَّرَكم وتذكَّرَ دينَكم وما أضاعَه، وعصَم حَرْثَكم وزرعكم ولُعاعَه، وأنزلَ المطر وأكمل أبضاعَه، وبعَث مسيحَه لدفع الضير، ومهديَّه لإفاضة الخير، وأدخلَكم في زمانِ إمامكم بعد زمان الغير.
أيها الإخوان.. إن زماننا هذا يضاهي شَهْرَنا هذا بالتناسب التام، فإنه آخرُ الأزمنة، وإن هذا الشهر آخرُ الأشهر من شهور الإسلام، وكلاهما قريب من الاختتام، في هذا ضحايا وفي ذلك ضحايا، والفرقُ فرقُ الأصل وعكس المرايا، وقد سبق نموذجُها في زمن خير البرايا. والأصل ضحيّةُ الروح يا أولي الأبصار، وإن ضحايا الجدايا كالأظلال والآثار، فافهموا سِرَّ هذه الحقيقة، وأنتم أحقّ بها وأهلُها بعد الصحابة. وإنكم الآخرون منهم، أُلْحِقتم بهم بفضل من الله والرحمة.
وإن سلسلة الأزمنة خُتمتْ على زماننا من حضرة الأحديّة، كما خُتمتْ شهور الإسلام على شهر الضحيّة، وفي هذا إشارة مخفية لأهل الرأي والرؤية.
وإني على مقام الختم من الولاية، كما كان سيدي المصطفى على مقام الختم من النبوة. وإنه خاتم الأنبياء، وأنا خاتم الأولياء، لا وليَّ بعدي، إلا الذي هو مني وعلى عهدي. وإني أُرسلتُ من ربي بكل قوة وبركة وعزة، وإن قدمي هذه على منارةٍ خُتِمَ عليها كلُّ رفعة. فاتقوا الله أيها الفتيان، واعرفوني وأطيعوني ولا تموتوا بالعصيان. وقد قرُب الزمان، وحان أن تُسأل كلُّ نفس وتُدانُ. البلايا كثيرة ولا ينجيكم إلا الإيمان، والخطايا كبيرة ولا يُذيبها إلا الذَّوَبانُ. اتّقُوا عذابَ الله أيها الأعوان، ولمن خاف مقامَ ربّه جنّتان. فلا تقعُدوا مع الغافلين والذين نسوا المنايا، وسارِعوا إلى الله واركَبوا على أعدى المطايا، واتركوا ذواتِ الضَّلَعِ والرذايا، تصِلوا إلى ربّ البرايا. خُذوا الانقطاعَ الانقطاعَ ليوهَب لكم الوصلُ والاقترابُ، وكَسِّروا الأسبابَ ليُخلَق لكم الأسبابُ، ومُوتوا ليُرَدَّ إليكم الحياةُ أيها الأحباب.
اليوم تمّت الحجّةُ على المخالفين، وانقطعتْ معاذير المعتذرين، ويئِس منكم زُمَرُ المضلِّين والموسوسين، الذين أكلوا أعمارهم في ابتغاء الدنيا وليس لهم حظّ من الدين، بل هم كالعَمِين. فاليوم أنقضَ الله ظهورَهم ورجعوا يائسين. اليوم حصحص الحق للناظرين، واستبان سبيل المجرمين، ولم يبقَ مُعرِض إلا الذي حبَسه حرمانٌ أزليّ، ولا منكِرٌ إلا الذي منَعه عدوانٌ فطريّ، فنترك هؤلاء بسلام، وقد تمّ الإفحام، وتحقّقَ الأثام، وإن لم ينتهوا فالصبر جدير، وسوف ينبّئهم خبير".
فهذه الخطبة معجزة بمعنى الكلمة، وهي تدل على أن المسيح الموعود عليه السلام قد تلقاها وحيا من الله تعالى، وهذا دليل دامغ على صدقه شاهَدَه جمع كبير من الناس وعاشوه.
بقلم: الاستاذ هاني طاهر
فالأسف كل الأسف أن أكثر الناس لا يعلمون هذه النكاتِ الخفيّة، ولا يتّبعُون هذه الوصيّة. وليس عندهم معنى العيد، مِن دون الغسل ولَبْسِ الجديد، والخَضْمِ والقَضْمِ مع الأهل والخدم والعبيد، ثم الخروج بالزينة للتعييد كالصناديد. وترى الأطائبَ من الأطعمة منتهى طَرَبِهم في هذا اليوم، والنفائسَ من الألبسة غايةَ أَرَبِهم لإراءة القوم. ولا يَدْرون ما الأَضْحاةُ، ولأَيِّ غرضٍ يُذبَح الغنمُ والبقرات. وعندهم عيدُهم من البُكرة إلى العشيّ، ليس إلا للأكل والشرب والعيش الهنيّ، واللباس البهيّ، والفرس الشريّ، واللحم الطريّ. وما ترى عَمَلَهم في يومهم هذا إلا اكتساءَ الناعماتِ، والمشطَ والاكتحالَ وتضميخَ الملبوسات، وتسويةَ الطُرَر والذوائب كالنساء المتبرجات، ثم نقراتٍ كنقرة الدجاجة في الصلاة، مع عدم الحضور وهجومِ الوساوس والشتات، ثم التمايلَ إلى أنواع الأغذية والمطعومات، ومَلْءِ البطونِ بألوان النِّعَم كالنَّعَم والعجماوات، والميلَ إلى الملاهي والملاعب والجهلات، وسَرْح النفوس في مراتع الشهوات، والركوبَ على الأفراس، والعجل والعَناسِ، والجِمال والبغال ورقاب الناس، مع أنواع من التزيينات، وإفناءَ اليوم كله في الخزعبيلات، والهدايا من القلايا، والتفاخر بلحوم البقرات والجدايا، والأفراح والمِراح، والجذبات والجِماح، والضحك والقهقهة، بإبداء النواجذ والثنايا، والتشوق إلى رقص البغايا، وبَوسِهن وعِناقهن، وبعد هذا نِطاقِهن.
فإنا لله على مصائب الإسلام، وانقلاب الأيام! ماتت القلوب، وكثرت الذنوب، واشتدت الكروب. فعند هذه الليلة الليلاء، وظلمات الهوجاء، اقتضى رحمُ الله نورَ السماء. فأنا ذلك النور، والمجدِّد المأمور، والعبد المنصور، والمهدي المعهود، والمسيح الموعود. وإني نزلتُ بمنـزلةٍ مِن ربي لا يعلَمها أحد من الناس. وإن سِرِّي أَخفَى وأَنْأَى مِن أكثر أهل الله فضلاً عن عامة الأناس. وإن مقامي أبعدُ من أيدي الغوّاصين، وصعودي أرفعُ من قياس القائسين. وإن قدمي هذه أسرعُ من القِلاص في مسالك رب الناس. فلا تقيسوني بأحد ولا أحدًا بي، ولا تُهلِكوا أنفسكم بالريب والعَماس. وإني لبٌّ لا قشرَ معه، وروحٌ لا جسدَ معه، وشمس لا يحجبها دخانُ الشِّماس. واطلبوا مثلي، ولن تجدوه وإن تطلبوه بالنبراس. ولا فخرَ، ولكن تحديث لنعم الله الذي هو غارس لهذا الغراس. وإني غُسّلتُ بماء النور، وطُهّرتُ بعين القُدْسِ من الأوساخ والأدناس، وسمّاني ربي أحمدَ، فاحمَدُوني ولا تشتِموني ولا تُوصِلوا أمركم إلى الإبلاس. ومَن حمدني وما غادرَ مِن نوعِ حمدٍ فما مانَ، ومَن كذّب هذا البيانَ فقد مانَ وأغضب الرحمنَ. فويلٌ للذي شَكَّ، وفسَخ العهدَ وفَكَّ، ولوَّث بطائفٍ من الجنّ الجَنانَ.
وإني جئت من الحضرة الرفيعة العالية، ليُرِيَ بي ربي مِن بعض صفاته الجلالية والجمالية، أعني دَفْعَ الضير، وإفاضةَ الخير. فإن الزمان كان محتاجا إلى دافعِ شرٍّ طَغى، وإلى رافعِ خيرٍ انحطّ واختفى، فاقتضتْ العنايةُ الإلهية أن يُعطَى الزمانُ ما سأل بلسان الحال، ويُرحَم طبقاتُ النساء والرجال، فجعَلني مَظْهَرَ المسيحِ عيسى ابن مريم لدفعِ الضرِّ وإبادةِ موادِّ الغواية، وجعلني مظهرَ النبيِّ المهديِّ أحمَدَ أكرَمَ لإفاضةِ الخير وإعادةِ عِهاد الدراية والهداية، وتطهيرِ الناس من درن الغفلة والجناية. فجئتُ في الحُلّتَين المَهْزُودتين المصبَّغتين بصبغ الجلال وصبغ الجمال، وأُعطيتُ صفةَ الإفناء والإحياء من الربّ الفعّال.
فأما الجلال الذي أُعطيتُ فهو أثرٌ لِبُروزي العِيسويِّ من الله ذي الجلالž، لأُبيدَ به شَرَّ الشِّركِ الموّاج الموجود في عقائد أهل الضلال، المشتعل بكمال الاشتعال، الذي هو أكبر من كل شرّ في عين الله عالِم الأحوال، ولأهدِمَ به عمودَ الافتراء على الله والافتعال.
وأما الجمال الذي أُعطيتُ فهو أثرٌ لِبُروزي الأحمديِّ من الله ذي اللطف والنوال، لأُعيدَ به صلاح التوحيد المفقود من الألسن والقلوب والأقوال والأفعال، وأقيمَ به أَمْرَ التديّن والانتحال.
وأُمرتُ أن أقتل خنازير الإفساد والإلحاد والإضلال، الذين يدوسون دُرَرَ الحقّ تحت النعال، ويُهلِكون حرث الناس ويخرّبون زروع الإيمان والتورع والأعمال. وقتلي هذا بحربة سماوية لا بالسيوف والنِّبال، كما هو زعم المحرومين من الحق وصدق المقال، فإنهم ضلّوا وأضلّوا كثيرًا من الجهّال. وإن الحرب حُرّمتْ عليّ، وسبق لي أن أضع الحرب ولا أتوجه إلى القتال. فلا جهادَ إلا جهاد اللسان والآيات والاستدلال.
وكذلك أُمرتُ أن أملأ بيوتَ المؤمنين وجُرُبَهم من المال، ولكن لا باللُّجَين والدجّال، بل بمال العلم والرشد والهداية واليقين على وجه الكمال، وجعلِ الإيمان أثبَتَ من الجبال، وتبشيرِ المُثقَلِين تحت الأثقال. فبشرى لكم قد جاءكم المسيح، ومسَحه القادرُ وأُعطيَ له الكلام الفصيح، وإنه يعصمكم مِن فِرقةٍ هي للإضلال تسيح، وإلى الله يدعو ويصيح، وكلَّ شبهةٍ يُزيل ويُزيح. وطوبى لكم قد جاءكم المهدي المعهود، ومعه المال الكثير والمتاع المنضود. وإنه يسعى ليردَّ إليكم الغنى المفقودَ، ويستخرجَ الإقبالَ الموءودَ. ما كان حديثا يفترى، بل نور من الله مع آيات كبرى.
أيها الناس.. إني أنا المسيح المحمدي، وإني أنا أحمَدُ المهدي. وإن ربي معي إلى يوم لَحْدي من يومِ مهدي. وإني أُعطيتُ ضِرامًا أكّالاً، وماءً زُلالاً، وأنا كوكبٌ يمانيّ، ووابلٌ روحانيّ. إيذائي سِنانٌ مذرَّب، ودعائي دواءٌ مجرَّب. أُرِي قومًا جلالا، وقومًا آخرين جمالا، وبِيَدِي حربةٌ أُبيدُ بها عاداتِ الظلم والذنوب، وفي الأخرى شربةٌ أُعيدُ بها حياةَ القلوب. فاسٌ للإفناء، وأنفاسٌ للإحياء. أما جلالي فبما قُصِدَ كابن مريم استيصالي، وأما جمالي فبما فارتْ رحمتي كسَيِّدي أحمَدَ لأَهدِيَ قومًا غفلوا عن الربّ المتعالي.
أفأنتم تعجَبون، وإلى الزمان وضرورته لا تلتفتون؟ ألا ترون إلى زمانٍ احتاج إلى الربّ الفعّال، ليُرِيَ لقومٍ صفةَ جلاله ولقومٍ صفةَ الجمال؟ وقد ظهرت الآياتُ، وتبيّنت العلامات، وانقطعت الخصومات، فما لكم لا تنظرون؟ وانكسفت الشمسُ والقمر في رمضان فلا تعرفون. ومات بعض الناس بنبأٍ من الله وقُتِلَ البعض فلا تفكِّرون. ونزلتْ لي آيٌ كثيرة فلا تبالون. وشهدتْ لي الأرض والسماء، والماء والعَفاء فلا تخافون. وتظاهَرَ لي العقلُ والنقل والعلامات والآيات، وتظاهرت الشهاداتُ والرؤيا والمكاشفات، ثم أنتم تنكرون. وإن لها شأنا عظيما لقوم يتدبرون. وطلَع ذو السِّنينَ، ومضى من هذه المائة خُمْسُها إلا قليل من سنين، فأين المجدِّد إن كنتم تعلمون؟ ونزل من السماء الطاعونُ، ومُنِعَ الحجُّ وكثُر المَنونُ، واختصمَ الفِرقُ على معدنٍ من ذهبٍ وهم يقاتلون. وعلا الصليب، وأضحى الإسلام يسيب ويغيب، كأنه الغريب، وكثُر الفسق والفاسقون. وحُبِّبَ إلى النفوس الخمرُ، والقَمْرُ والزَّمْرُ، وتراءَى الزانون المجالحون وقَلَّ المتّقون. وتجلَّى وقتُ ربّنا وتمّ ما قال النبيون. فبأي حديث بعده تؤمنون؟
أيها الناس، قُوموا للهِ زُرافاتٍ وفُرادى فُرادى، ثم اتّقوا اللهَ وفَكِّروا كالذي ما بخل وما عادى، أليس هذا الوقت وقتَ رحمِ الله على العباد، ووقتَ دفعِ الشرّ وتدارُكِ عَطَشِ الأكباد بالعِهاد؟ أليس سيلُ الشرِّ قد بلَغ انتهاءَه، وذيلُ الجهلِ طوَّل أرجاءَه، وفسَد المُلك كله وشكَر إبليس جهلاءَه؟ فاشكروا اللهَ الذي تذكَّرَكم وتذكَّرَ دينَكم وما أضاعَه، وعصَم حَرْثَكم وزرعكم ولُعاعَه، وأنزلَ المطر وأكمل أبضاعَه، وبعَث مسيحَه لدفع الضير، ومهديَّه لإفاضة الخير، وأدخلَكم في زمانِ إمامكم بعد زمان الغير.
أيها الإخوان.. إن زماننا هذا يضاهي شَهْرَنا هذا بالتناسب التام، فإنه آخرُ الأزمنة، وإن هذا الشهر آخرُ الأشهر من شهور الإسلام، وكلاهما قريب من الاختتام، في هذا ضحايا وفي ذلك ضحايا، والفرقُ فرقُ الأصل وعكس المرايا، وقد سبق نموذجُها في زمن خير البرايا. والأصل ضحيّةُ الروح يا أولي الأبصار، وإن ضحايا الجدايا كالأظلال والآثار، فافهموا سِرَّ هذه الحقيقة، وأنتم أحقّ بها وأهلُها بعد الصحابة. وإنكم الآخرون منهم، أُلْحِقتم بهم بفضل من الله والرحمة.
وإن سلسلة الأزمنة خُتمتْ على زماننا من حضرة الأحديّة، كما خُتمتْ شهور الإسلام على شهر الضحيّة، وفي هذا إشارة مخفية لأهل الرأي والرؤية.
وإني على مقام الختم من الولاية، كما كان سيدي المصطفى على مقام الختم من النبوة. وإنه خاتم الأنبياء، وأنا خاتم الأولياء، لا وليَّ بعدي، إلا الذي هو مني وعلى عهدي. وإني أُرسلتُ من ربي بكل قوة وبركة وعزة، وإن قدمي هذه على منارةٍ خُتِمَ عليها كلُّ رفعة. فاتقوا الله أيها الفتيان، واعرفوني وأطيعوني ولا تموتوا بالعصيان. وقد قرُب الزمان، وحان أن تُسأل كلُّ نفس وتُدانُ. البلايا كثيرة ولا ينجيكم إلا الإيمان، والخطايا كبيرة ولا يُذيبها إلا الذَّوَبانُ. اتّقُوا عذابَ الله أيها الأعوان، ولمن خاف مقامَ ربّه جنّتان. فلا تقعُدوا مع الغافلين والذين نسوا المنايا، وسارِعوا إلى الله واركَبوا على أعدى المطايا، واتركوا ذواتِ الضَّلَعِ والرذايا، تصِلوا إلى ربّ البرايا. خُذوا الانقطاعَ الانقطاعَ ليوهَب لكم الوصلُ والاقترابُ، وكَسِّروا الأسبابَ ليُخلَق لكم الأسبابُ، ومُوتوا ليُرَدَّ إليكم الحياةُ أيها الأحباب.
اليوم تمّت الحجّةُ على المخالفين، وانقطعتْ معاذير المعتذرين، ويئِس منكم زُمَرُ المضلِّين والموسوسين، الذين أكلوا أعمارهم في ابتغاء الدنيا وليس لهم حظّ من الدين، بل هم كالعَمِين. فاليوم أنقضَ الله ظهورَهم ورجعوا يائسين. اليوم حصحص الحق للناظرين، واستبان سبيل المجرمين، ولم يبقَ مُعرِض إلا الذي حبَسه حرمانٌ أزليّ، ولا منكِرٌ إلا الذي منَعه عدوانٌ فطريّ، فنترك هؤلاء بسلام، وقد تمّ الإفحام، وتحقّقَ الأثام، وإن لم ينتهوا فالصبر جدير، وسوف ينبّئهم خبير".
فهذه الخطبة معجزة بمعنى الكلمة، وهي تدل على أن المسيح الموعود عليه السلام قد تلقاها وحيا من الله تعالى، وهذا دليل دامغ على صدقه شاهَدَه جمع كبير من الناس وعاشوه.
بقلم: الاستاذ هاني طاهر
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى