هل كان بشر قبل أدم
صفحة 1 من اصل 1
هل كان بشر قبل أدم
هل كان بشر قبل أدم
يقول الخليفة الثاني في تفسير سورة البقرة:
إذا تأملنا بعض آيات القرآن التي تتناول خلق آدم ظهر لنا أن النوع الإنساني لم يبدأ به، وأن كثيرين من البشر كانوا موجودين في عصره.. منها قوله تعالى:
(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة * قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء).
وقوله: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم)"سورة الأعراف:12".
وقوله: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما..)"سورة طه:116".
وقوله: (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين *)"سورة الحجر 27.. 30".
وقوله: (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)"سورة ص:72..73".
فخلق الإنسان المذكور في هذه الآيات لا يشير إلى خلق آدم بذاته كما زعم بعض الناس، وإنما المراد به خلق البشر البدائي. ويجوز أن يكون الله تعالى قد أخبر الملائكة عند أول خلقه للبشر، بأن هذا البشر سيكون في يوم من الأيام المقبلة أحق بتلقي الوحي، ثم بعدئذ عندما حان استخلاف آدم أخبرهم مرة ثانية بقوله: (إني جاعل في الأرض خليفة)، وذلك بعد أن تمت تسوية آدم لهذا المنصب الجليل، كما أشار إلى ذلك بقوله: (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي).
ويصدق هذا المعنى قوله تعالى: (الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قيلا ما تشكرون *)"سورة السجدة: 8.. 10".
تبين هذه الآية أن ترتيب خلق الإنسان كما يلي:
1. خلق الإنسان أولا من طين،
2. ثم استمرار نسله بالنطفة المنوية،
3. ثم تمام اكتمال القوى الإنسانية فيه،
4. ثم بعد ذلك نزول الوحي الإلهي عليه.
فآدم الذي تشرف بكلام الله تعالى.. كان من ذرية الناس الذين خُلقوا من النطفة، وليس من الذين تطوروا من خلق الطين كحلقة أولى للبشرية.
وثمة آيات أخرى تدل على أن آدم (عليه السلام) لم يكن أول إنسان ظهر في الوجود، بل كان في عصره كثير من الناس غيره.. ففي سورتنا يقول الله تعالى: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة). ويصح من الناحية اللغوية أن يكون المراد بالزوج الأصحاب والجماعة، وبمعنى ذلك أن بني نوعه أيضا كانوا موجودين من قبله.
ثم قال عز وجل بعد هذه الآية: (وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو * ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين *).. وهنا الخطاب للجماعة، وبعدها قال: (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون *) وقال أيضا: (قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى *)"سورة طه:124".
وخطاب آدم هنا يراد به جماعة آدم وجماعة الشيطان، وهما الجمع.
والخلاصة:
1. أن خلق آدم كما أخبر القرآن الكريم.. لم يتم دفعة واحدة، بل إن الجزئيات الدقيقة تطورت في نشوئها، ومرت بمراحل عديدة مختلفة إلى أن تحولت للصورة الإنسانية.
2. أن مكونات الإنسان منذ بدايتها في أبسط صورها كانت مهيئة لتكون في النهاية ذلك الكائن البشري، وليس كما زعم الفلاسفة.. نتيجة تطور مصادف في الحيوانات المختلفة.
3. أن الوجود البشري الأول لم يكن يتلقى الوحي السماوي، ولكن جيلا من سلالته التي خلقت من النطفة هو الذي وصل إلى حد من الكمال أهّله لتلقي الوحي، وأول من حاز هذا المقام الجليل هو مَن أسماه القرآن الكريم.. آدم.
4. أنه كان قبل آدم، وفي زمنه، كثيرا من بني جنسه. وقد اختار الله تعالى آدم ليكون خليفة يجمع شملهم بنظام وهداية سماوية، وأن معاصريه هؤلاء معه في تلك الجنة الأرضية التي عاش فيها، وأنهم أخرجوا منها أيضا معه.
وأذكر في هذه المناسبة حوارا جرى بين مؤسس الجماعة الأحمدية وبين مُنجم أسترالي حول مسألة خلق آدم. وقد زار هذه المنجم عدة مدن في الهند والتقى معه في لاهور حيث دار بينهما هذا الحوار:
سؤال: ورد في التوراة أن آدم أو الإنسان الأول ظهر في أرض جيحون وسيحون، وقطن هناك، فهل هؤلاء المقيمون في أمريكا وأستراليا وغيرها هم أيضا من أبنائه؟
جواب: لسنا نقول بذلك، ولا نتبع التوراة في هذه القضية.. فنقول بما تدعيه من أن الدنيا بدأت بخلق آدم منذ ستة أو سبعة آلاف عام، ولم يكن قبل ذلك شيء، فكأن الله عز وجل كان متعطلا. كما أننا لا ندعي أن بني نوع الإنسان الذي يقطنون اليوم في مختلف أنحاء الأرض هم أولاد آدم هذا الأخير، بل إننا نعتقد بأن بني الإنسان كانوا موجودين قبله.. كما يتبين من كلمات القرآن الحكيم.. (إني جاعل في الأرض خليفة). فلا يمكن لنا الجزم بأن سكان أستراليا وأمريكا من أولاد آدم هذا، ومن الجائز أن يكون بعض الأوادم الآخرين.
وأشير بهذا الصدد إلى كشف عجيب رآه الشيخ محي الدين بن عربي، وهو شخصية إسلامية بارزة، فقد قال:
" أراني الحق تعالى فيما يراه النائم.. وأنا أطوف بالكعبة مع قوم من الناس لا أعرفهم بوجوههم، فأنشدونا بيتين نسيت أحدهما وأذكر الثاني وهو:
لقد طفنا كما طفتم سنينا بهذا البيت طرًا أجمعينا
فتعجبت من ذلك. وتسمى لي أحدهم باسم لا أذكره، ثم قال لي: أنا من أجدادك. قلت:كم لك منذ مت؟ فقال: لي بضع وأربعون ألف سنة. فقلت له: فما لآدم هذا القدر من السنين؟! فقال لي: عن أي آدم تقول، عن هذا الأقرب إليك عن غيره؟ فتذكرت حديثا لرسول الله أن الله خلق مائة ألف آدم، وقلت: قد يكون ذلك الجد الذي نسبني إليه من أولئك "."كتاب الفتوحات المكية،ج3، الفصل الخامس في المنازلات، باب 309".
يفهم من هذا الكشف أن آدم الموحى إليه، والذي ينتسب إليه بنو آدم اليوم، لم يكن آدم الأول، بل إنه آخر الآوادم. وكذلك يظهر منه أن كلمة "آدم" قد تستعمل كصفة أيضا بمعنى الجد الأكبر، وأن الوجود البشري مازال مستمرا منذ أقدم العصور، وأن الدور المذكور في الأحاديث النبوية الشريفة.. والمحدد بسبعة آلاف سنة.. إنما أريد به دور آدم الأخير فقط.. وليس أدوار البشرية جمعاء.
ورب سائل يقول: إذا كان الجيل البشري موجودا قبل آدم المذكور، وأنه تتابعت ولادته عن نطفة، فلماذا إذن يقول القرآن الحكيم بأن الخلق من زوجين؟.. ولماذا قيل في الحديث النبوي أن المرأة قد خلقت من ضلع أعوج؟
والجواب على ذلك أن الآيات المتضمنة لهذا الموضوع.. لا تذكر آدم بتاتا، بل إنها تصرح بأن الله تعالى خلق الإنسان من نفس واحدة وجعل منها زوجها.. فيقول:
1. (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها.. وبث منهما رجالا كثيرا ونساء. واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام..)"سورة النساء:2".
2. (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها، فلما تغشها حملات حملا خفيفا فمرت به، فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين) "سورة الأعراف:190".
3. ( خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها..)"سورة الزمر:7".
ولا يراد بالنفس الواحدة هنا البشر الأول أو آدم "عليه السلام".. وإنما يراد بها أن الأفراد والآحاد تنشأ منهم الأمم الكبرى، وأن الأجيال إذا اقتفت آثار آبائهم صاروا مثلهم.. إنْ كفارا فكفارا، وإن مؤمنين فمؤمنين.
أما قوله تعالى: (جعل منها زوجها) فيعني أنه تعالى خلق زوجها من نوعها ليكون الزوجان متجانسين.. يؤثر أحدهما في الآخر.
ولا ينخدعن أحد بحديث الرسول : (استوصوا بالنساء خيرا فإن المرأة خُلقت من ضلع)"صحيح مسلم، كتاب الرضاعة، باب الوصية بالنساء".. فالحديث لا يختص بزوج آدم، بل يخص جميع نساء العالم، وهيئة ولادة النساء معلومة مشهودة، ولا يريد الحديث المعني الظاهري للضلع، بل إن المراد به: (فإنهن خلقهن من ضلع استعارة للمعوج، أي خلقن خلقا فيه الاعوجاج)"كتاب مجمع بحار الأنوار،ج1،للشيخ محمد الطاهر".
والخلاصة أن الآيات السابقة والحديث المذكور.. لا يدلان على أن آدم الذي جعله الله خليفة كان هو أول البشر، أو أن زوجته خلقت من جسمه، ولكن الآيات تتناول جميع بني الإنسان كقاعدة كلية شاملة لجميع هذا النوع رجالا كانوا أو نساء.
تمدُّن آدم
ولما كان آدم "عليه السلام" هو أول من جعله الله تعالى خليفة في هذه الأرض، كي يقيم التمدّن الإنساني، وهو الهدف الحقيقي من بعثته واستخلافه.. كان من المناسب هنا أن نذكر المبادئ التي تأسس عليها تمدن آدم:
1. نظام الزواج: إذ شُرع لأتباعه ما لم يكن قد عرفوه من قبل علاقة شرعية محددة بين الرجل والمرأة طبقا لأمر الله تعالى: (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة)."سورة البقرة: 36".
2. نظام التحليل والتحريم: فقد بدأ الأمر بالعمل طبقا لبعض الأحكام والنهي عن بعض الأعمال كما قال تعالى: (وكلا منها رغدا حيث شئتما.. ولا تقربا هذه الشجرة..)"سورة البقرة: 36".
3. نظام التعاون على تهيئة وسائل الطعام والشراب للجميع.
4. نظام الكساء.
5. نظام السكن.
ويجمع هذه النظم الثلاثة الأخيرة قول الله تعالى: (إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى *)"سورة طه 119،120". وليست هذه صورة مفصلة لجنة آدم كما زعم بعضهم خطأ، بل إنها الصورة المرسومة لتمدن آدم والتي دعا إليها المجتمع الإنساني الأول. إن اجتماع الناس يؤدي أحيانا إلى حرمان قسم من الناس من وسائل الغذاء والكساء، فعلى الآخرين الذين يتمتعون بخيرات التمدن أن يسعوا جهدهم لسدّ هذا الفراغ، ويتعاونوا على إعانة الفقراء والمسنين والعاجزين، ويهيئوا لهم حاجتهم من الغذاء والكساء والخباء.
ويقول أيضا: كما لا يصح عندي القول بأن الخليفة هم ذرية آدم من بعده، لأن القرآن عندما أراد ذكر خلافة الشعوب بعد آدم استخدم صيغة الجمع مثل قوله تعالى:
(وهو الذي جعلكم خلائف الأرض)"الأنعام:166".
(هو الذي جعلكم خلائف في الأرض)"فاطر:40".
(ثم جعلناكم خلائف في الأرض)"يونس:15".
(وجعلناهم خلائف)"يونس:74".
(واذكروا إذ جعلكم خلفاء)"الأعراف:70".
(ويجعلكم خلفاء الأرض)"النمل:63".
بعد أن أشار القرآن إلى اصطفاء المصطفى وبعثته إلى الناس بالقرآن الكريم الذي لا ريب فيه، وهدى للمتقين، من عند الله تعالى.. ذكَر اصطفاء الله تعالى لآدم.. فدلَّ بذلك على أن نزول الوحي السماوي وبعث الأنبياء ليس من البدع، بل إنه سنة مطردة منذ خلق الإنسان على هذه البسيطة، ولا يزال مستمرا دون انقطاع، وأن آدم هو الإنسان الأول، ومعه بدأ نزول الوحي السماوي، وأن الله تعالى لم يترك الإنسان مهملا مضيعا أبدا، بل ما زال قائما على هدايته منذ البداية.
وتشير الآية أيضا إلى أن آدم خلق على هذه الأرض وكانت مهمته في هذه الدنيا، وعلى هذه الأرض ذاتها.. وذلك بخلاف ما يزعم البعض من أن آدم أدخل الجنة التي يدخلها الصالحون بعد موتهم. ومما يدعو للتعجب.. إن الله عز وجل يقول (إني جاعل في الأرض خليفة)، ومع ذلك يصر البعض على دخول آدم في الجنة الموعودة في الآخرة. وقد قال بعضهم بأن الله خلق آدم أولا على الأرض ثم أدخله الجنة.. ولكن الآية لا تسيغ هذا القول، لأنها صريحة في جعل الخليفة في هذه الأرض. ومن البين أنه يستخلف في الأرض مِن أجل هدف وغاية، ولا يتحقق ذلك بدخول آدم في الجنة.
وآيات القرآن الأخرى تدحض هذا الزعم فمثلا: يقول تعالى عن الجنة الموعودة بأنها (لا لغو فيها ولا تأثيم)"سورة الطور:24".. ولكن الجنة التي دخلها آدم معه فيها شيطان، وحرضه على معصية الله تعالى. ثم يصف الله الجنة بقوله (لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين)"سورة الحجر:49".. لكن آدم أخرج من الجنة. وكذلك يقول عن الجنة (ولكم فيها ما تدَّعون)"سورة فصلت:32"، ولكن آدم أخرج من الجنة بسبب اقترابه من الشجرة. وجاء في وصف جنة الآخرة (نتبوأ من الجنة حيث نشاء)"سورة الزمر:75"، ولكن آدم أمر بألا يقرب الشجرة.
تبين مما سبق أن جنة آدم (عليه السلام) كانت على هذه الأرض، لأنه كان خليفة لأهل هذه الأرض، فكان محتما بقاؤه فيها حتى الموت.
وللموضوع تفصيل.
هاني طاهر نقلا عن التفسير الكبير بشيء من الاختصار والتصرف.
يقول الخليفة الثاني في تفسير سورة البقرة:
إذا تأملنا بعض آيات القرآن التي تتناول خلق آدم ظهر لنا أن النوع الإنساني لم يبدأ به، وأن كثيرين من البشر كانوا موجودين في عصره.. منها قوله تعالى:
(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة * قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء).
وقوله: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم)"سورة الأعراف:12".
وقوله: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما..)"سورة طه:116".
وقوله: (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين *)"سورة الحجر 27.. 30".
وقوله: (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)"سورة ص:72..73".
فخلق الإنسان المذكور في هذه الآيات لا يشير إلى خلق آدم بذاته كما زعم بعض الناس، وإنما المراد به خلق البشر البدائي. ويجوز أن يكون الله تعالى قد أخبر الملائكة عند أول خلقه للبشر، بأن هذا البشر سيكون في يوم من الأيام المقبلة أحق بتلقي الوحي، ثم بعدئذ عندما حان استخلاف آدم أخبرهم مرة ثانية بقوله: (إني جاعل في الأرض خليفة)، وذلك بعد أن تمت تسوية آدم لهذا المنصب الجليل، كما أشار إلى ذلك بقوله: (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي).
ويصدق هذا المعنى قوله تعالى: (الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قيلا ما تشكرون *)"سورة السجدة: 8.. 10".
تبين هذه الآية أن ترتيب خلق الإنسان كما يلي:
1. خلق الإنسان أولا من طين،
2. ثم استمرار نسله بالنطفة المنوية،
3. ثم تمام اكتمال القوى الإنسانية فيه،
4. ثم بعد ذلك نزول الوحي الإلهي عليه.
فآدم الذي تشرف بكلام الله تعالى.. كان من ذرية الناس الذين خُلقوا من النطفة، وليس من الذين تطوروا من خلق الطين كحلقة أولى للبشرية.
وثمة آيات أخرى تدل على أن آدم (عليه السلام) لم يكن أول إنسان ظهر في الوجود، بل كان في عصره كثير من الناس غيره.. ففي سورتنا يقول الله تعالى: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة). ويصح من الناحية اللغوية أن يكون المراد بالزوج الأصحاب والجماعة، وبمعنى ذلك أن بني نوعه أيضا كانوا موجودين من قبله.
ثم قال عز وجل بعد هذه الآية: (وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو * ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين *).. وهنا الخطاب للجماعة، وبعدها قال: (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون *) وقال أيضا: (قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى *)"سورة طه:124".
وخطاب آدم هنا يراد به جماعة آدم وجماعة الشيطان، وهما الجمع.
والخلاصة:
1. أن خلق آدم كما أخبر القرآن الكريم.. لم يتم دفعة واحدة، بل إن الجزئيات الدقيقة تطورت في نشوئها، ومرت بمراحل عديدة مختلفة إلى أن تحولت للصورة الإنسانية.
2. أن مكونات الإنسان منذ بدايتها في أبسط صورها كانت مهيئة لتكون في النهاية ذلك الكائن البشري، وليس كما زعم الفلاسفة.. نتيجة تطور مصادف في الحيوانات المختلفة.
3. أن الوجود البشري الأول لم يكن يتلقى الوحي السماوي، ولكن جيلا من سلالته التي خلقت من النطفة هو الذي وصل إلى حد من الكمال أهّله لتلقي الوحي، وأول من حاز هذا المقام الجليل هو مَن أسماه القرآن الكريم.. آدم.
4. أنه كان قبل آدم، وفي زمنه، كثيرا من بني جنسه. وقد اختار الله تعالى آدم ليكون خليفة يجمع شملهم بنظام وهداية سماوية، وأن معاصريه هؤلاء معه في تلك الجنة الأرضية التي عاش فيها، وأنهم أخرجوا منها أيضا معه.
وأذكر في هذه المناسبة حوارا جرى بين مؤسس الجماعة الأحمدية وبين مُنجم أسترالي حول مسألة خلق آدم. وقد زار هذه المنجم عدة مدن في الهند والتقى معه في لاهور حيث دار بينهما هذا الحوار:
سؤال: ورد في التوراة أن آدم أو الإنسان الأول ظهر في أرض جيحون وسيحون، وقطن هناك، فهل هؤلاء المقيمون في أمريكا وأستراليا وغيرها هم أيضا من أبنائه؟
جواب: لسنا نقول بذلك، ولا نتبع التوراة في هذه القضية.. فنقول بما تدعيه من أن الدنيا بدأت بخلق آدم منذ ستة أو سبعة آلاف عام، ولم يكن قبل ذلك شيء، فكأن الله عز وجل كان متعطلا. كما أننا لا ندعي أن بني نوع الإنسان الذي يقطنون اليوم في مختلف أنحاء الأرض هم أولاد آدم هذا الأخير، بل إننا نعتقد بأن بني الإنسان كانوا موجودين قبله.. كما يتبين من كلمات القرآن الحكيم.. (إني جاعل في الأرض خليفة). فلا يمكن لنا الجزم بأن سكان أستراليا وأمريكا من أولاد آدم هذا، ومن الجائز أن يكون بعض الأوادم الآخرين.
وأشير بهذا الصدد إلى كشف عجيب رآه الشيخ محي الدين بن عربي، وهو شخصية إسلامية بارزة، فقد قال:
" أراني الحق تعالى فيما يراه النائم.. وأنا أطوف بالكعبة مع قوم من الناس لا أعرفهم بوجوههم، فأنشدونا بيتين نسيت أحدهما وأذكر الثاني وهو:
لقد طفنا كما طفتم سنينا بهذا البيت طرًا أجمعينا
فتعجبت من ذلك. وتسمى لي أحدهم باسم لا أذكره، ثم قال لي: أنا من أجدادك. قلت:كم لك منذ مت؟ فقال: لي بضع وأربعون ألف سنة. فقلت له: فما لآدم هذا القدر من السنين؟! فقال لي: عن أي آدم تقول، عن هذا الأقرب إليك عن غيره؟ فتذكرت حديثا لرسول الله أن الله خلق مائة ألف آدم، وقلت: قد يكون ذلك الجد الذي نسبني إليه من أولئك "."كتاب الفتوحات المكية،ج3، الفصل الخامس في المنازلات، باب 309".
يفهم من هذا الكشف أن آدم الموحى إليه، والذي ينتسب إليه بنو آدم اليوم، لم يكن آدم الأول، بل إنه آخر الآوادم. وكذلك يظهر منه أن كلمة "آدم" قد تستعمل كصفة أيضا بمعنى الجد الأكبر، وأن الوجود البشري مازال مستمرا منذ أقدم العصور، وأن الدور المذكور في الأحاديث النبوية الشريفة.. والمحدد بسبعة آلاف سنة.. إنما أريد به دور آدم الأخير فقط.. وليس أدوار البشرية جمعاء.
ورب سائل يقول: إذا كان الجيل البشري موجودا قبل آدم المذكور، وأنه تتابعت ولادته عن نطفة، فلماذا إذن يقول القرآن الحكيم بأن الخلق من زوجين؟.. ولماذا قيل في الحديث النبوي أن المرأة قد خلقت من ضلع أعوج؟
والجواب على ذلك أن الآيات المتضمنة لهذا الموضوع.. لا تذكر آدم بتاتا، بل إنها تصرح بأن الله تعالى خلق الإنسان من نفس واحدة وجعل منها زوجها.. فيقول:
1. (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها.. وبث منهما رجالا كثيرا ونساء. واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام..)"سورة النساء:2".
2. (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها، فلما تغشها حملات حملا خفيفا فمرت به، فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين) "سورة الأعراف:190".
3. ( خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها..)"سورة الزمر:7".
ولا يراد بالنفس الواحدة هنا البشر الأول أو آدم "عليه السلام".. وإنما يراد بها أن الأفراد والآحاد تنشأ منهم الأمم الكبرى، وأن الأجيال إذا اقتفت آثار آبائهم صاروا مثلهم.. إنْ كفارا فكفارا، وإن مؤمنين فمؤمنين.
أما قوله تعالى: (جعل منها زوجها) فيعني أنه تعالى خلق زوجها من نوعها ليكون الزوجان متجانسين.. يؤثر أحدهما في الآخر.
ولا ينخدعن أحد بحديث الرسول : (استوصوا بالنساء خيرا فإن المرأة خُلقت من ضلع)"صحيح مسلم، كتاب الرضاعة، باب الوصية بالنساء".. فالحديث لا يختص بزوج آدم، بل يخص جميع نساء العالم، وهيئة ولادة النساء معلومة مشهودة، ولا يريد الحديث المعني الظاهري للضلع، بل إن المراد به: (فإنهن خلقهن من ضلع استعارة للمعوج، أي خلقن خلقا فيه الاعوجاج)"كتاب مجمع بحار الأنوار،ج1،للشيخ محمد الطاهر".
والخلاصة أن الآيات السابقة والحديث المذكور.. لا يدلان على أن آدم الذي جعله الله خليفة كان هو أول البشر، أو أن زوجته خلقت من جسمه، ولكن الآيات تتناول جميع بني الإنسان كقاعدة كلية شاملة لجميع هذا النوع رجالا كانوا أو نساء.
تمدُّن آدم
ولما كان آدم "عليه السلام" هو أول من جعله الله تعالى خليفة في هذه الأرض، كي يقيم التمدّن الإنساني، وهو الهدف الحقيقي من بعثته واستخلافه.. كان من المناسب هنا أن نذكر المبادئ التي تأسس عليها تمدن آدم:
1. نظام الزواج: إذ شُرع لأتباعه ما لم يكن قد عرفوه من قبل علاقة شرعية محددة بين الرجل والمرأة طبقا لأمر الله تعالى: (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة)."سورة البقرة: 36".
2. نظام التحليل والتحريم: فقد بدأ الأمر بالعمل طبقا لبعض الأحكام والنهي عن بعض الأعمال كما قال تعالى: (وكلا منها رغدا حيث شئتما.. ولا تقربا هذه الشجرة..)"سورة البقرة: 36".
3. نظام التعاون على تهيئة وسائل الطعام والشراب للجميع.
4. نظام الكساء.
5. نظام السكن.
ويجمع هذه النظم الثلاثة الأخيرة قول الله تعالى: (إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى *)"سورة طه 119،120". وليست هذه صورة مفصلة لجنة آدم كما زعم بعضهم خطأ، بل إنها الصورة المرسومة لتمدن آدم والتي دعا إليها المجتمع الإنساني الأول. إن اجتماع الناس يؤدي أحيانا إلى حرمان قسم من الناس من وسائل الغذاء والكساء، فعلى الآخرين الذين يتمتعون بخيرات التمدن أن يسعوا جهدهم لسدّ هذا الفراغ، ويتعاونوا على إعانة الفقراء والمسنين والعاجزين، ويهيئوا لهم حاجتهم من الغذاء والكساء والخباء.
ويقول أيضا: كما لا يصح عندي القول بأن الخليفة هم ذرية آدم من بعده، لأن القرآن عندما أراد ذكر خلافة الشعوب بعد آدم استخدم صيغة الجمع مثل قوله تعالى:
(وهو الذي جعلكم خلائف الأرض)"الأنعام:166".
(هو الذي جعلكم خلائف في الأرض)"فاطر:40".
(ثم جعلناكم خلائف في الأرض)"يونس:15".
(وجعلناهم خلائف)"يونس:74".
(واذكروا إذ جعلكم خلفاء)"الأعراف:70".
(ويجعلكم خلفاء الأرض)"النمل:63".
بعد أن أشار القرآن إلى اصطفاء المصطفى وبعثته إلى الناس بالقرآن الكريم الذي لا ريب فيه، وهدى للمتقين، من عند الله تعالى.. ذكَر اصطفاء الله تعالى لآدم.. فدلَّ بذلك على أن نزول الوحي السماوي وبعث الأنبياء ليس من البدع، بل إنه سنة مطردة منذ خلق الإنسان على هذه البسيطة، ولا يزال مستمرا دون انقطاع، وأن آدم هو الإنسان الأول، ومعه بدأ نزول الوحي السماوي، وأن الله تعالى لم يترك الإنسان مهملا مضيعا أبدا، بل ما زال قائما على هدايته منذ البداية.
وتشير الآية أيضا إلى أن آدم خلق على هذه الأرض وكانت مهمته في هذه الدنيا، وعلى هذه الأرض ذاتها.. وذلك بخلاف ما يزعم البعض من أن آدم أدخل الجنة التي يدخلها الصالحون بعد موتهم. ومما يدعو للتعجب.. إن الله عز وجل يقول (إني جاعل في الأرض خليفة)، ومع ذلك يصر البعض على دخول آدم في الجنة الموعودة في الآخرة. وقد قال بعضهم بأن الله خلق آدم أولا على الأرض ثم أدخله الجنة.. ولكن الآية لا تسيغ هذا القول، لأنها صريحة في جعل الخليفة في هذه الأرض. ومن البين أنه يستخلف في الأرض مِن أجل هدف وغاية، ولا يتحقق ذلك بدخول آدم في الجنة.
وآيات القرآن الأخرى تدحض هذا الزعم فمثلا: يقول تعالى عن الجنة الموعودة بأنها (لا لغو فيها ولا تأثيم)"سورة الطور:24".. ولكن الجنة التي دخلها آدم معه فيها شيطان، وحرضه على معصية الله تعالى. ثم يصف الله الجنة بقوله (لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين)"سورة الحجر:49".. لكن آدم أخرج من الجنة. وكذلك يقول عن الجنة (ولكم فيها ما تدَّعون)"سورة فصلت:32"، ولكن آدم أخرج من الجنة بسبب اقترابه من الشجرة. وجاء في وصف جنة الآخرة (نتبوأ من الجنة حيث نشاء)"سورة الزمر:75"، ولكن آدم أمر بألا يقرب الشجرة.
تبين مما سبق أن جنة آدم (عليه السلام) كانت على هذه الأرض، لأنه كان خليفة لأهل هذه الأرض، فكان محتما بقاؤه فيها حتى الموت.
وللموضوع تفصيل.
هاني طاهر نقلا عن التفسير الكبير بشيء من الاختصار والتصرف.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى